حين نكتب عن وردة، لا نكتب عن أرشيفها... بل نكتب عن أنفسنا من خلاله.
لا أحد يغني مثل وردة، ولا أحد يعيش الأغنية كما تفعل. في كل مرحلة من مسيرتها كانت وردة مرآة لعواطفنا، لصوت الاشتياق، ولحزن المدن، ولحيرة العائدين من الغربة. في عيد ميلادها، لا نبحث عن ترتيب لأفضل ما غنّت، بل نشارككم ما اخترناه لأنفسنا من أرشيفها المتعدد الألوان؛ أغانٍ رافقتنا في ليالينا، ووشوشت لنا في لحظات الانكسار، وأعادت تعريف الحب والفقد والانتظار.
وردة - ليالينا
تبدأ الأغنية بأداء دافىء عميق وصوت متمهل يعبر عن حالة تيه، مترافقًا مع كوبليهات مُنغمة، وكأنها دائرة لا يمكن الفكاك منها. يتصاعد أداء وردة مع كلمات سيد مرسي، مثل جملة "مشينا وأدينا من غير أهالينا" ملتقطًا النقطة المفصلية وسبب ذلك التيه، وهو فقدان وجود الصلة الأوثق في العلاقات الإنسانية؛ الأهل.
يأبى بليغ حمدي أن يترك اللحن هادئًا، فيحركه بالصاجات والإيقاع الشرقي الراقص، ليضيف طابعًا شعبيًا على وصلة التندر على غدر الحياة وقسوتها، ويخرج الأغنية من شعور الانفصال والعزلة والشكوى الفردية، للجماعية المقترنة بضوضاء الآلات التي يضيفها، وكأن الضياع هو حالة نشعر بها كلنا لكننا لا نريد أن نفصح عن ذلك أو نعبر عنه بصوت عالي. - من اختيارات يوسف علي
وحشتوني
تتقاطع "وحشتوني" من فيلم "حكايتي مع الزمان" عام (1974) مع أحداث حياة وردة الحقيقية في تلك الفترة. كانت قد عادت لتوها من فترة توقف دامت لعشر سنوات بعد زواجها وعودتها إلى الجزائر. تجعل تلك الأحداث الأغنية أحد أكثر اللحظات حميمية بالفيلم؛ خاصة مع همس وردة لكلمة "وحشتوني" وهي تتأمل خشبة المسرح. شعور باللهفة عابر للشاشة، ولحظة موثقة لمشاعر عودتها لجمهور حية حتى هذه اللحظة.
تتنقل عاطفتنا كمستمعين بين الكورال الذي يرحب بـ "أعز الحبايب" و"القمر اللي غايب"، وبطلة المشهد العائدة ترد عليهم بـ "وحشتوني ووحشتوا عيوني وفكرتوني باللي كان"؛ اختيار لفظة العين بالتحديد أعطى إحساسًا إضافيًا بشجن الذكريات والوحشة، وهي طبعًا بصمة سيد مرسي. برع بليغ حمدي في تلحين وتوزيع الأغنية، حيث يضيف البيانو مع الوتريات بُعدًا سينمائًيا واستعراضيًا، بينما عبّر الناي في المقدمة عن أسى الغربة والندم على ما كان من غياب، مُكررًا الكوبليهات القصيرة لتعطي الإحساس بالشجن. - من اختيارات يوسف علي
بتونس بيك
من بين أرشيف وردة الزاخر بالروائع، تظل "بتونس بيك" الأغنية الأقرب إلى قلبي. لا أعرف تمامًا سر هذا الارتباط العميق بها لكنها تحمل شيئًا من السحر لا يتلاشى مع الزمن. كتب كلماتها عمر بطيشة ولحنها صلاح الشرنوبي ووزعها طارق عاكف، وكأن هذا الثلاثي اجتمع ليصنع لحظة خالدة في تاريخ الأغنية العربية.
لكن ما يجعلها مميزة بالنسبة لي هو أداء وردة ذاته، ذلك المزيج الفريد من الخفة والدلال والصدق العاطفي الذي يصلني مباشرة دون حواجز. في كل مرة أستمع إليها أشعر أنها تغني لي وحدي، وكأنها تهمس بمشاعرها في لحظة صدق خجولة، لا سيما خلال تلك الوقفات الصامتة التي تبدو وكأنها تلتقط أنفاسها قبل أن تواصل الغناء.
ورغم أن "بتونس بيك" كانت أول تعاون يجمعها بالشرنوبي إلا أن النتيجة جاءت ناضجة بشكل مبهر. وبرغم طول الأغنية لم أشعر يومًا بالملل منها، بل على العكس أجد نفسي في كل مرة أتمنى ألا تنتهي. ربما لهذا السبب ما زالت الأغنية تحافظ على مكانتها في قوائم الاستماع على مختلف المنصات حتى اليوم وتحتل دائما مكانًا ثابتًا في كل قائمة موسيقية أعدها لنفسي. - من اختيارات نورهان أبو زيد
حنين
أخجل أحيانًا من هذا الاعتراف، لكني تعرفت على أغنية "حنين" للمرة الأولى عن طريق شيرين عبد الوهاب. غنتها في أحد حلقات برنامج "صولا" الذي كانت أصالة تستضيفه، وغنت مقطعها الافتتاحي دون مرافقة موسيقية، وهي في غاية التأثر. ثم اختتمت الأداء بقولها: "بليغ يا عمي.. بليغ!".
بين صوت شيرين وصوت وردة ارتفعت مكانة الأغنية في قلبي، فتربعت بين أجمل الأغاني التي سمعتها في حياتي لامرأة تغني عن الحب الذي لا يعرف الأنانية أو الغرور. كيف لا وقد كتبها عبد الوهاب محمد، بفرط حساسيته لمشاعر الصدق في الحب، أما وردة فمنحتها الصدق في الأداء، وهي تجسد معانيها بصوتها حين تغني: "شايلاك فى نِنْ عيني/ واللى بينك وبيني / أشواق كل الأحبّة / وحنين المحرومين". - من اختيارات هلا مصطفى
ملّيت من الغربة
بعد أن قررت وردة العدول عن الاعتزال، رغبت في خوض تجربة موسيقية جديدة، تُمصّر فيها الراي الجزائري، عبر ألبوم "بتونس بيك". وداخل هذا المشروع، جاءت "ملِّيت من الغربة" بصوتٍ مختلف ونبرة شعورية متفرّدة. كتبها عمر بطيشة ولحنها صلاح الشرنوبي.
هذا المزيج الموسيقي الخاص، الذي ظهر للمرة الأولى والأخيرة في مسيرة وردة، بدا شديد الإثارة في "مليت من الغربة" بوجه خاص. ربما كان ذلك لأنها اقترنت بثيمة الغربة، وما يقترن بها من أفكار وتساؤلات حول الوطن والهوية، لتبدو الإيقاعات الجزائرية الشعبية التي تضبط الأغنية ذات معنى، وتعكس الحزن المبطن في شخصية وردة. تسكن هذه الأغنية نبرة شجن خافتة، تتسلل منذ أول آهة وتكبر كلما ردّدت وردة كلمة "الغربة"، كأنها تعيد تعريفها في كل مرة. - من اختيارات عمر بقبوق
أيام
تضمن الألبوم الأخير لوردة أغنية "أيام" من كلمات منير بو عساف وألحان بلال الزين، التي شاءت الصدفة أن يتأجل إصدارها حتى عام 2012، بعد رحيلها. توقيت إصدار الأغنية جعلنا نتلقاها بعاطفة أكبر، ولكنها تبقى بموضوعية بين أفضل أغاني وردة. كل تفاصيل الأغنية مثيرة للدهشة، من صوتها الذي أنهكته السنين مرورًا بأدائها العاطفي للكلمات التي تتمنى فيها إعادة الزمن، وانتهاءً باللحن الطربي العصري الحزين، بحيث لا يمكن تخيل أغنية أفضل كخاتمة لمسيرتها. - من اختيارات عمر بقبوق
"Les Feuilles Mortes"
يحلو للبعض أحيانًا المقارنة بين وردة وداليدا، وإن كانت مسيرة كل منهما مناقضة تمامًا من الأخرى. نشأت وردة في فرنسا لكنها آثرت بدء مسيرتها في مصر، على عكس داليدا. حين تؤدي داليدا بالعربية تظهر بعض الهنات المستحبّة في إلقائها المكسّر، كذلك الحال مع وردة عندما تخونها العُرَب الشرقية التي تضفي وقعًا آسرًا على غنائها بالفرنسية.
يظهر ذلك جليًا في أدائها العذب لإحدى الكلاسيكيات الفرنسية بجانب جورج موستاكي في إحدى برامج المنوعات سنة 1993. غنّت وردة "الأوراق الميتة" التي كتبها الشاعر الفرنسي جاك بيرفار ولحنها فلاديمير كوسما، مصحوبة بجورج موستاكي على الجيتار في ثنائيّة قلّما نراها بين إحدى أهم القامات الغنائية الفرنسية وأهم الأصوات العربية. - من اختيارات هيكل الحزقي
فراق غزالي
تملك وردة حيلًا كثيرة لكسب جمهورها أينما حلّت. في حفل تونس سنة 1976، اختارت الجزائرية أداء "فراق غزالي" للراحلة صليحة. بدأت وردة بمخاطبة الجمهور بلهجة تونسية مخاتلة تمهيدًا لأدائها لإحدى أهم الفوندوات في تاريخ الموسيقى التونسية، وهي من القوالب التراثية التي تجمع بين الرصيد الغنائي الحضري والبدوي، الكلاسيكي والشعبي، برعت فيها صليحة.
وضع بليغ حمدي مقدمة موسيقية مختلفة عن القالب المعهود للفوندو التاريخي، انطلقت بعده وردة في عروبي طويل (العروبي يقابل الموّال في الموسيقى التونسية التقليدية) يسبق الغناء الذي لوّنته بحمولة مُطربة من الشجن، منوّعة بين خصوصيات الطرب التونسي القائم على قصر النفس، والمدرسة الشرقية في الأداء التي تعتمد طول النفس، ومسبغةً مقطع "من يوم فارقت بلادي" بنبرة متفجّعة تقترب من البكاء. - من اختيارات هيكل الحزقي
وردة - خليك هنا
خليك هنا من كلمات محمد حمزة وألحان وتوزيع بليغ حمدي، تعد من أيقونات أغاني الفراق والبعد عن الحبيب، خصوصًا وسط موجات السفر للعمل في الخارج وقتها. لكن كأغلب تعاونات وردة مع بليغ نشعر أن الأغنية تحمل معاني الشوق وعدم الاستقرار التي امتازت بها قصة حبهما. - من اختيارات محمود عرابي