على امتداد أربعة عقود، صنعت نوال أرشيفًا غنيًا لا يختزلها في هيت واحد أو حقبة بعينها، بل في قدرة نادرة على تجديد نفسها دون أن تفقد هويتها. بين أغانيها التي تصدّرت وانتشرت على نطاق واسع، بقيت هناك أعمال أخرى ناعمة وعميقة ومظلومة نقديًا، لم تنل ما تستحقه من ضوء رغم جمالياتها الغنائية واللحنية.
في هذا التقرير، نعود إلى تلك الأغاني التي تستحق أن تُسمَع من جديد. الأغاني التي تكشف الوجه الأكثر صدقًا ورهافة في مسيرة نوال؛ من اعترافات الحب المرتبكة في "تدري"، إلى رقّة "أنت طيب"، وعذوبة "حبيبة قلبي"، وصولًا إلى تجاربها الحديثة التي تثبت أنها ما زالت قادرة على مفاجأتنا. هذه 9 أغنيات نؤمن أنها تحمل شيئًا من روح نوال، وشيئًا من تاريخنا معها.
تدري
في عام 1996 كَسرت نوال النمط الإنتاجي الذي التزمت به منذ بداياتها عام 1984، حين اعتادت عنونة ألبوماتها باسمها مقرونًا بسنة الإصدار. لكن ألبوم ذلك العام حمل اسم إحدى أغانيه: "تدري". كأن نوال أدركت أن هذه الأغنية تمتلك جاذبيتها الخاصة، وأنها تملك القدرة على الانطباع بالذاكرة بمجرد الاستماع إليها. لاحقًا سيتحقق ذلك فعلًا. تحوّلت لازمتها الشهيرة "تدري ولا ما تدري/ أحبك يا بعد عمري" إلى نغمة جماعية لحبّ عاشه جيل بأكمله. الأغنية من كلمات معاني وألحان رابح صقر، وقد شكّلت محطة فارقة في مسيرة نوال.
في أغنية "تدري" تبدو نوال كأنها تجمع لحظتين متباعدتين: لحظة الاعتراف التي ترتجف فيها الكلمات قبل خروجها، ولحظة الغياب التي يثقل فيها الهواء من شدّة الشوق. الأغنية تمزج بين الشعورين دون فواصل. كل جملة حب فيها تحمل ظلّ خوفًا صغيرًا. كل نبضة شوق تبدو امتدادًا لاعتراف لم يكتمل بعد. الإيقاع الخليجي السريع يقلص الفوارق بين المشاعر الحائرة التي تؤديها نوال بتلقائية وكأن الكلمات تقال بتداعي حر. *من اختيارات عمر بقبوق
إنتا طيب
بعض الأغاني تشعرنا مع صدق إحساسها وأدائها أنها تنقل صورة عن شخصية المؤدي الحقيقية، وهذه واحدة منها. تُشعرنا في كل مرة نسمعها أن فيها شيئًا من طيبة نوال ونظرتها للحياة وللحب.
لكن الكلمات والصور التي وضعها الشاعر تركي تأخذنا أبعد من ذلك، إلى حكاية أكثر تعقيدًا، يكشف منها القليل، ويبقي على الجزء الأكبر غامضًا. يتأرجح صوت الأنثى التي تغني برقة بين خوفها على من تحب، وتسليمها بطيبته وخصاله الجيدة، وشعورها بالجرح والعتب في الوقت نفسه. فيما تصعد وتهبط ألحان طارق محمد في كل جملة مستكملة الرقة والهدوء التي صاغتها الكلمات للشخصية والحكاية. أغنية "أنت طيب" فُصّلت خصيصًا على مقاس نوال، وتبقى حتى اليوم بين أرق أغاني أرشيفها. *من اختيارات هلا مصطفى
الشوق جابك
البطولة في هذا العمل كان للتوزيعات، لتحمل التجديد إلى أسلوب الأداء الطربي الرومانسي الذي لا تغني نوال سواه. وضع إسماعيل تونش أسلوب إنتاج موسيقي يناسب روح بداية الألفية والتجديد الذي حملته لمختلف المشاهد الموسيقية في العالم العربي. انتظمت التوزيعات اللآلاتية على الإيقاع الإلكتروني الذي غلّف معظم هيتات تلك الحقبة.
وفي لحظة مباغتة، نسمع صوت الملحن مشعل العروج، الذي أصبح لاحقًا زوج نوال، وهو ينضم إليها بالغناء دون أي إنذار مسبق، ودون أن يضيف اسمه كمغنٍ، ما يبدو لنا اليوم وكأنه كان إنذارًا مسبقًا بقصة حب توجت بالزواج بعد سبع سنوات من صدور الأغنية، وأن تشاركهما الإحساس والشغف بالفن، دفعهما نهاية ليتشاركا الحياة. *من اختيارات هلا مصطفى
مثل النسيم
من الأغاني الأحدث نسبيًا على هذه القائمة، وقد صدرت ضمن ألبوم "نوال 2016"، تفتتحها نوتات البيانو وكوردات الجيتارات الأكوستيك فتبدو كأنها بالاد عاطفية هادئة. لكن بمجرد دخول صوت نوال وهي تغني الكلمات المثقلة بالتعابير والأوصاف، نستشعر ثقلًا في كل عناصر العمل الفني، وجاذبية كبيرة يصعب تفسيرها، منذ الجملة الأولى: "مثل النسيم الساكن اللي مر له غصن وتحرك/ ذكراك مرتني بصمت وجا على بالي كلام".
لا تفسير للوقع الذي تتركه نوال في القلب سوى صدق الإحساس، وهي مدرسة السهل الممتنع ذاتها التي تنتمي إليها أصوات مثل شيرين عبد الوهاب وفضل شاكر. تُشعرنا كلما نسمعها وكأنها تشاركنا قصصها أو مشاعرها الشخصية، فلا يسعنا إلا تصديقها، فتنتصر هي، وينتصر فنّها. *من اختيارت هلا مصطفى
فيني كثير
من بين التجارب الفنية اللافتة التي قدمتها نوال خلال السنوات الأخيرة، تبرز أغنية "فيني كثير" التي صدرت عام 2021 كأغنية منفردة ضمن ألبوم جماعي حمل عنوان "وان بلاي ليست" بإشراف الشاعر واحد.
جاءت الأغنية بتوقيع الشاعرة رحاب وألحان مشعل العروج وتوزيع جيهون جيلكتان، وتُمثل حالة غنائية خاصة تسير فيها نوال على خيط رفيع من العذوبة والاحتياج فصوتها يدخل الأغنية بهدوء مشحون بالمشاعر لتعبر عن شوقها واحتياجها الدائم لحبيبها كما لو كانت تبوح له بكل ما لم يُقال.
واحدة من عناصر التميز في "فيني كثير" هي التوزيعات الشرقية الغنية بالتفاصيل إذ تتداخل فيها إيقاعات الطبول مع عزف القانون بما يعزز من الجو العاطفي للأغنية دون أن يطغى على صوت نوال. ومع كل لازمة تبدو وكأنها تعاتب برقة وتحب بخفة وتستجدي العودة بحنان فتُعيد صياغة مشاعر الاشتياق بأسلوبها الخاص الذي لا يُشبه أحد. *من اختيارات نورهان أبو زيد
نوال و عبدالله الرويشد/ حبيبة قلبي
في بدايات الألفية قدمت نوال ديو لا يُنسى مع عبد الله الرويشد بعنوان "حبيبة قلبي" من كلمات الشيخ صباح الناصر وألحان عبد الله القعود. قد تكون هذه الأغنية واحدة من أعذب ما قُدم في الغناء العاطفي الخليجي، حيث امتزجت فيها إيقاعات خليجية هادئة بوترية ناعمة لا تطغى بل تُعزز الإحساس دون مبالغة.
لكن ما يجعل "حبيبة قلبي" متفردة هو التناغم البديع بين صوتي نوال والرويشد، فكلاهما بدا غارقًا في حالة حب شفافة، ينقلانها بصوتين نابضين بالشوق والدفء بينما يردد الكورال في الخلفية "عسى الله لا يفارقنا" وكأنه دعاء عاشقين لا يريدان للفراق أن يقترب.
الحوار الغنائي بينهما لم يكن مجرد تبادل سطور بل حوار وجداني حقيقي أضفى على الأغنية عمقًا عاطفيًا جعلها تستقر في وجدان المستمعين وتبقى كأحد أجمل الثنائيات الغنائية في ذاكرة الأغنية الخليجية. *من اختيارات نورهان أبو زيد
بيحسدوني عليه
أعتقد أن "بيحسدوني عليه" التي كتبها كلمات أمير طعيمة ولحنها رياض الهمشري واحدة من الأغاني التي تعود للأضواء ويمكنها دخول القوائم حتى بسهولة. بالرغم من مرور سنين على إصدارها، تبقى الأغنية في الرأس بسهولة.
لم يكن من المعتاد أن نسمع صوتًا بهذه القوة ينقل كل ذلك "الدلع" على الأقل ظاهريًا. حملت الأغنية كذلك طابعًا حزينًا مع غناء نوال التي تبدأ بـ "قال إيه بيحسدوني عليه" ثم تكمل في منتصف الأغنية "على ايه على الجراح ولا الدموع ولا الألم، عالعذاب ولا على دمع الندم".
كانت "بيحسدوني عليه" من التجارب النادرة لنوال باللهجة المصرية، وقد كررتها حين أصدرت تتر "كنا واحد" لمسلسل غادة عبد الرازق "صيد العقارب" في رمضان 2024، مع ألحان تامر عاشور وكلمات أحمد حسن راؤول وتوزيع أحمد ابراهيم. *من اختيارات محمود عرابي
نوال وفضل شاكر/ يا مرحبا
قبل سنوات، تشارك الثنائي فضل شاكر وأحلام، أغنية "أحاول" التي يعرفها أغلب أبناء الجيل المكلوم. كانت الكلمات والألحان محمّلة على إيقاع شديد البطء يراهن على مساحات الصوت لديهما. كان ثنائي جذب انتباه الجمهور في المنطقة العربية كلها. وباتت الأغنية مرجع رومانسي مهم لدى الجيل كله.
مرت السنوات عليهما، توقف فضل شاكر عن الغناء فترة طويلة، أثناء عودته لاحقًا في بداية العام، سيقدّم أغنية مع صديقته القديمة "يا مرحبا" التي كانت ربما تستقبله بها مع زوجها الملحن مشعل المروج.
أغنية "يا مرحبا" حملت كلمات الشاعر عايض بن غيده، ألحان مشعل العروج، وتوزيع موسيقي لكل من ربيع الصيداوي وإسماعيل تونش. بدأت من كورال يرحّب بالحبيب القادم، ويوعد نفسه بالخلاص في وجوده. صوتهما جاء رائقًا ومليء بالسعادة الهادئة كذلك. طبقة صوتية راضية تمامًا مع جملة موسيقية منتشية تمامًا، فرحة تمامًا.
"وأغلى ما تغلّيه الفرس/ خيّالها في زحامها" إيقاع خليجي على كلمات تبدو أحيانًا للتغزّل في الحبيب، وأخرى لتجاوز الغزل إلى الفخر الكامل بمجرد وجوده. هكذا جاء الثنائي بعد سنوات طويلة، كلاهما هاديء، ورقيق. يغرّدان على لحن وكلمات غير ملفتة تمامًا، لكنها تعتمد تمامًا على طبقة صوت ملائمة، توليفة تبعث الطمأنينة في مستمعها فورًا. *من اختيارات حسام الخولي
الراية البيضاء
تحمل الأغنية ألحان الطرب الخليجي الذي اعتدنا عليه، وهي من توقيع أحمد الهرمي، لكن بطابع مختلف يتنقل بالمستمع من التفكّر بعلاقاته والتأرجح ما بين عزّة النفس والهيام. تصوّر علاقة حب يتغلب فيها التعلّق على الكبرياء، وأن الحب ما زال موجودًا رغم الآلام.
يرفع الشاعر "الراية البيضاء"، ويسلّم زمام العلاقة كاملة للطرف الآخر. وفي الوقت نفسه يعترف بتناقضه في "أنا عارفني إذا أقفيت .. راح بلحظة أرجع لك". بشكل عام، تحمل الأغنية طابعًا مليئًا بالمشاعر والتعبير عن الخذلان برقي، كما اعتدناه من نوال. *من اختيارات سارة وائل






