في عام 1995، وقفت نجوى كرم على مسرح قطر بعد أن أطلقت ألبومها الأخير "ما بسمحلك". رغم أنها كانت في بداية مشوارها، إلا أن حضورها على هذا المسرح الكبير كان نقطة فاصلة، تحمل حنين التسعينيات وأجواء الحفلات التي كانت تتطلب من الفنان جهدًا وإتقانًا استثنائي.
وفي وقتٍ كانت فيه معظم المغنيات، لا سيما من لبنان، يحاولن اختراق المشهد الخليجي عبر الغناء بلهجته، وقفت نجوى بفستانها المزركش على مسرح يعجّ بالآلاف.
أرفقت كل أغنية مع موال طويل، بصوتها الذي يمتلك خشونة محببة ولمعانًا جبليًّا، خاصة وأن وهذه الجماليات الجبلية تظهر في الأداء الحي حيث يتضح التحكم في النَفَس، والقدرة على القفلات الارتجالية التي تحتاج إلى تدريب أكاديمي وصوت غير مصطنع.
لم يستطع الجمهور مقاومة الرقص على أنغام الميجانا والدلعونا التي كانت تقدمها بحيوية لا تخطئها لا الأذن ولا العين. رافقها عازف الأوكورديون في الوصلات؛ إضافة موسيقية طورتها نجوى لتدمج بين الفولكلور اللبناني ونبض البوب الحديث.
من مهرجانات جرش إلى قرطاج والقاهرة، سافرت نجوى كرم حاملةً إرث الأغنية اللبنانية، وكأنها توجه الزمن برسالة: لا تنسَ ألواننا. بصوتها الذي أعاد إحياء الميجانا والعتابا، أثبتت في التسعينيات أن هذا اللون قادر على العيش من جديد. كما أثبتت أن البوب اللبناني قادر على الحفاظ على حضوره في ساحة تتنافس فيها اللهجات والأسواق المختلفة، من دون أن يذوب في موجاتها أو يتنازل عن هويته.
منذ بداياتها، رفضت نجوى الغناء في المسارح الصغيرة أو أوتيلات السهر، مدركةً أن الصوت الذي تمتلكه، واللون الذي اختارته، يتطلبان مساحة جماهيرية أوسع. لم يكن في هذا الرفض انتقاص من تجارب فنية أخرى، بل وعي بحجم المشروع الذي تبنيه.
https://youtube.com/embed/XgEmSB2YQYY
صوت نسائي محمل بتجارب الأغنية الجبلية
شكّل الصوت الجبلي عمود الأغنية اللبنانية منذ الأربعينيات، معتمدًا على الفلكلور ومحصورًا غالبًا بالأصوات الذكورية مثل وديع الصافي ونصري شمس الدين، مع استثناءات نسائية مثل فيروز وصباح اللواتي قدمن الميجانا والعتابا لكن لم يكن مشروعهن الأساسي. ومع تفكك مؤسسات الإنتاج في السبعينيات ودخول الحرب الأهلية، تراجعت مركزية الأغنية اللبنانية. في التسعينيات، برز "البوب اللبناني" مع نجوم مثل راغب علامة ونوال الزغبي، فقلّ الاهتمام بالصوت الجبلي الذي صار يُنظر إليه كقديم وغير ملائم لسوق الكاسيت والكليبات.
جاء صوت نجوى كامتداد طبيعي لتجارب المغنيات اللواتي سبقنها، لكنها اتخذت من اللون الجبلي مشروعًا فنيًّا لها، حيث استوعبت ما قدمته الأصوات النسائية السابقة من مفردات وحضور، وطوّرته من ناحية التقنية والأداء والهوية. بل ولعلها حملت مشروع الأغنية اللبنانية على ظهرها وحيدةً بعد أن رفضت الغناء بغيرها من اللهجات.
في مقابلة أُجريت معها في بداياتها عام 1993، جلست نجوى كرم تستمع إلى شهادات عدد من كبار الموسيقيين الذين أثنوا على صوتها، من بينهم ملحم بركات وزكي ناصيف وإيلي شويري. طرحت عليها مقدمة البرنامج سؤالًا محوريًا عن تبنيها اللون الجبلي، مشيرة إلى أن هذا اللون كان في طريقه إلى الاندثار، فأجابتها: "معروفين أهل زحلة إذا بتقليلهم مرحبا بيقلك يا ميجانا ويا ميجانا. هيدا اللون اكتسبتو من بيئتي، شربتو وعشقتو."
بعدها بعشر سنوات، وقفت نجوى في الحوارية الغنائية "وكبرنا" أمام وديع الصافي، أحد أعمدة الأغنية الجبلية، ليقدما معًا شكل الموال الحواري الطويل الذي كاد أن يختفي من الساحة اللبنانية. مثلت هذه الوقفة تلاقي الأجيال، حيث أدت نجوى دور الابنة التي تعلّمت من وديع وأخذت من إرثه ما أرادت، لكنها كانت أيضًا من أعاده إلى الضوء، مانحة هذا اللون حضورًا جديدًا في زمن مختلف.
https://youtube.com/embed/4vIlCKZi4P0
من الموهبة إلى الاحتراف
عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها، طلت نجوى كرم للمرة الأولى على التلفزيون في برنامج "ليالي لبنان"، الذي خُصص لاكتشاف المواهب الآتية من المناطق البعيدة، مع تركيز خاص على الغناء الشعبي. عرّفت بنفسها قائلة إنها من زحلة، المدينة التي حملت لهجتها ونبرتها معها إلى المسرح. قدمت اللون الفلكلوري الذي سيصبح لاحقًا بصمتها الفنية، وافتتحت بأداء موال "هيهات يابو الزلوف"، قبل أن تغني "بطّلت صوم وصلي" من الفلكلور. في نهاية الموسم 1983 – 1984، حصدت الميدالية الذهبية عن فئة الغناء البلدي، وكانت تلك بداية علاقة طويلة مع المسرح والموسيقى واللون الجبلي.
بخلاف كثير من الفنانين الذين ينطلقون مباشرة بعد نيلهم الجوائز، اختارت نجوى أن تتأنى. قضت أربع سنوات في دراسة الموسيقى، منها سنتان في تعلم الصولفيج على يد زكي ناصيف في المعهد الموسيقي، وسنتان في العلوم الفنية الشرقية مع الموسيقار فؤاد عواد، كما تعلمت العزف على البيانو والعود.
في ألبومها الثاني "شمس الأغنية" سنة 1991، الذي حمل عنوانه اللقب الذي التصق بها حتى اليوم، بدا مشروع نجوى كرم ناضجًا ومتماسكًا فنيًا. اعتمد هذا المشروع على ثلاث ركائز أساسية: دراستها الأكاديمية للموسيقى، صوتها القوي والمشبّع بالجماليات الجبلية، والفولكلور اللبناني الذي شكّل قاعدة انطلقت منها لتدمج بينه وبين تأثيرات البوب. وبهذا كانت من أوائل الفنانين الذين طوروا هذا اللون وواكبوا عبره التحوّلات التقنية والجمالية في الموسيقى العربية.
https://youtube.com/embed/iCGAYMsdfFA
نجمة البوب اللبناني في التسعينيات والألفية
كان لاختيار الشعراء والملحنين دور حاسم في بناء هوية نجوى كرم الفنية، ويبرز بينهم عماد شمس الدين الذي كتب ولحّن لها مجموعة من أهم أغانيها، وكان شريكًا أساسيًا في تطوير لونها الغنائي. لعب دورًا محوريًا في ألبومات مفصلية مثل "ندمانة"، الذي كتب ولحن جميع أغانيه، من بينها "عاشقة" التي شكلت إحدى أنجح أغنيات صيف 2001. كما ارتبط اسمها بتعاون طويل الأمد مع الملحن أنطوان الشعك، الذي رافقها منذ التسعينيات وأسهم في صياغة العديد من ألحانها التي جمعت بين قوة الأداء وروح البوب اللبناني.
مع بداية الألفية ربحت نجوى كرم رهانها على اللون الجبلي وأغنية البوب المطعمة بالفلكلور ببصمتها الخاصة، وصارت ألبوماتها المنتظرة تصدر مع بداية الصيف، لتصبح كل أغنية منها جزءًا من ذاكرة الرحلات والسهرات والأعراس. ألبوماتها، التي صدرت تباعًا كل سنة من "عيون قلبي" عام 2000 مرورًا بـ "سحرني" 2003 وحتى "هيدا حكي" عام 2007، شكلت أرشيفها الحي حتى اليوم، ويمكن القول إنها أرست الإيقاع الذي دارت حوله صناعة البوب اللبناني في تلك المرحلة.
توالت ألبوماتها خلال العقد الثاني من الألفية، مع "مافي نوم" في 2011، و"مني إلك" في 2017، و"كاريزما" في 2023. حافظت فيها جميعها على تنوع بين البوب اللبناني، ولمسات الغناء الفلكلوري، وإيقاعات الدبكة التي لا تغيب في أغانيها. فكانت مثلًا أبرز هيتاتها عبر الأعوام الماضية أغنية "ملعون أبو العشق"، التي تجاوزت حتى اليوم 270 مليون مشاهدة على يوتيوب وحده. أغلقت حينها نجوى كرم شارع الحمرا في بيروت لساعات لتصوير الفيديو الرسمي للأغنية، فعُقدت حلقات الدبكة وسط تجمهر الناس والسيارات، الذين شاركوها الغناء والرقص.
https://youtube.com/embed/xT6ubt0qS8s
رغم التحولات الكبيرة التي شهدتها صناعة الموسيقى العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بقيت نجوى كرم محافظة على هوية الأغنية اللبنانية، مقدّمةً نموذجًا لفنانة تعرف كيف تطور صوتها وأدواتها من دون أن تتنازل عن جذورها. بين الميجانا والبوب، استطاعت أن تبني أرشيفًا موسيقيًا متماسكًا، وأن تظلّ حاضرة على أكبر المسارح في العالم. اليوم، لا يمكن الحديث عن البوب اللبناني من دون التوقف عند مشروعها الذي أصبح مرجعًا لجيل كامل، وصوتًا يستمر في حمل ذاكرة لبنان الفنية إلى المستقبل.
*مقال ضمن سلسلة "ملوك البوب في العالم العربي" التي تحتفي بأسماء من مصر والخليج، ومن بلاد الشام والعراق والمغرب الكبير، حافظوا على نشاطهم الفني طوال أربعة عقود، ونسترجع مع القارئ مشاهد بارزة في مسيرتهم المهنية.