في الأمتار الأخيرة من مسيرته، مال صوت لبنان الكبير، وديع الصافي، إلى خطابٍ عائلي حميمي، لينقل بإصداراته الأخيرة حنوّ الآباء وصلابة القيم العائلية. لعب دور الأب بأغاني وجهها إلى جمهور جديد؛ ليتمكن من الوصول والتأثير بجيل لم يعاصر مواويله وأغانيه التي شّرح بها الحب وجمال الضيعة، والتي ساهمت برسم معالم الأغنية اللبنانية عبر عقود طويلة، منذ انطلاقة مسيرته في الثلاثينيات.
ففي مطلع الألفية، وبعد أن تخطى وديع الصافي الثمانين من عمره، قدم أغنيتين استثنائيتين فكرًا وشعورًا، عاد بهما إلى ثيمة سبق أن قدمها سنة 1974 بأغنيته الشهيرة "الله يرضى عليك يا ابني"، حين غنّى لأول مرة من منظور الأب ووجه الذي يتوجه بغنائه لأبنائه.
عاد وديع الصافي إلى هذه الثيمة في دويتو "وكبرنا" الذي قدمه مع نجوى كرم سنة 2003 وأغنية "يا بنتي" التي قدمها سنة 2010، حين كان يبلغ 89 سنة من عمره، وقبل 3 سنوات من رحيله. وبصوته الذي ظل شامخًا رغم ثقل العمر، تمكن وديع الصافي من نقل مشاعر الأجيال السابقة، في حوارية "وكبرنا" التي يغلب عليها النوستالجيا، والتي ساهم فيها حضور نجوى كرم على اتساع رقعة الجمهور.
ثم جاءت أخيرًا أغنية "يا بنتي" التي قدمها منفردًا، وكانت همسة العتب الخالدة التي سيظل يتردد صداها كلما تذكرنا وديع الصافي.
"يا بنتي" أغنية مترجمة من السعودية للبنانية
أغنية "يا بنتي" كالعادة، هي من ألحان وديع الصافي، ولكن الغريب فيها أنها أغنية بنيت على قصيدة كتبتها الشاعرة السعودية سارة الهاجري، ثم تم العمل على لبننتها بالتعاون مع الشاعر طوني أبي كرم، لتُقدَّم باللهجة اللبنانية. ومن مفاجآت الأغنية أيضًا أنها صُوِّرت بكليب من إخراج جاد شويري، في خيار بصري حديث على أرشيف وديع الصافي، الذي ارتبطت أغانيه بالإذاعة والمسرح الغنائي. هذا التحديث المتأخّر أظهر رغبة وديع الصافي على التواصل مع جمهور مختلف، ليقدم لهم رسالة اجتماعية تردم فجوة القيم ووسائل الاتصال ما بين الآباء والأبناء.
الأغنية انتشرت حولها أقاويل، أن نصها الأصلي مرتبط بحكاية عائلة مفككة، ليكون النص خطاب عاطفي يوجهه أب لابنته، التي أدت تداعيات الطلاق لابتعاده عنها. وقد جاءت الكلمات عاصفة بالمشاعر وملوعة بالألم، تلقي وعودًا وتضمر أسفًا. إنها من الأغاني التي تنتمي للثيمة العائلية الخالصة؛ الثيمة النادرة بالأغنية العربية، ولكنها سرعان ما تحولت إلى أغنية رمزية، من أب الأغنية اللبنانية إلى جمهورها، ومن صوت لبنان الكبير إلى أبنائه.
عندما مالت الكفة من النوستالجيا إلى المستقبل
وما يميز "يا بنتي" أنها تختلف بالفكر والعاطفة عن أغاني وديع الصافي السابقة التي تنتمي بذات الثيمة؛ فهي تختلف بالتأكيد عن الأغنية الدرامية والنوستالجية "وكبرنا". فأغنية "وكبرنا" كانت عبارة عن قطعة طويلة أقرب إلى حوارٍ درامي بين أبٍ وابنته، يتبادلان الاعترافات والعتب.
تضمنت "وكبرنا" جمل عتب لا تدلل على وجود هوة بين الأجيال بقدر ما تدلل على الانحياز النوستالجي للزمن السابق، الذي يمكن تلخيصه بهذا المقطع الحواري، حين يغني وديع الصافي: "ضميري مش مرتاح وقلبي مش مرتاح/ حاسس إنك يا بنتي ما عدتي إنتِ”، وترد نجوى كرم: "إحساسك بمحله يا بيّي".
"يا بنتي" تأتي لتعكس جانب جديد من شخصية الأب. فرغم أنها تستخدم ذات اللغة الأبوية وأن العتب يظل الركيزة الأساسية في رسم حدود العلاقة بين الأب والابنة، وأن نبرة العتب بها أعلى، ففيها يأتي: "كلامك كان سيف بيجرح / خليتيني أشعر إني/ ماعندي بهالعيله مطرح". إلا أن الصراع بين الأجيال ينتهي بالانتصار للجيل الجديد وإعلان عن الإنحياز للجيل الجديد عوضًا عن النوستالجيا: "يا بنتي أنا قلبي مسامح/ كرمالك أنا بنسى امبارح"، لتكون الأغنية التي يسلم بها وديع الصافي الراية ـ رمزيًاـ إلى الأجيال اللاحقة.






