أسباب متعددة تجعل من الصعب الفصل تمامًا بين الجدل الذي تسبّب فيه فيلم "الست" قبل عرضه، وبين كلامنا عن الفيلم نفسه؛ أولًا لأن ذلك الزخم لم يحدث حول فيلم عربي بهذا القدر في السنوات الأخيرة. ثانيًا للدرس المستفاد على خلفية الاتهام أو الدفاع عن الفيلم أو عن قصة صاحبته: صاحبة العصمة أم كلثوم. ثالثًا للتأكيد على أننا نتحدث من خلال "صناعة" سينمائية تضخ مليارات وتنتظر أضعافها ليس كتابًا أو مسرحية. رابعًا لأهمية الحديث عن "الست" فنيًا وشخصيًا في ذاته للمهتم بالفن وغير المهتم كأهم شخصية فنية عربية في القرن.
لذلك، ومن أجل أرضية مشتركة للحوار عن "الست" دون النظر إلى المؤيد والمعارض. قد نتساءل قبل أي شيء، عن الجمهور الحقيقي للعمل: لمن صُنع فيلم "الست"؟ وربما انطلاقًا من الرهان على الإجابة، يمكن الدخول أكثر إلى تفسيرات متعددة اختار الصنّاع بروزتها دون غيرها.
وإذا كان كل عمل سابق عن "كوكب الشرق" أخذ مساحات تراهن على معرفة عشاقها بأجزاء من حياتها، أو على الأقل افتراض أبدي بمدى تعلّق الجمهور بها. اختار صنّاع "الست" الرهان في هذا العمل على من لا يعرفها تمامًا، ربما "جيل زد" الأصغر سنّا والأكثر جرأة، منهم من لا يعرفها أساسًا، ومنهم من تجاهل الاستماع لها. توجّه الصنّاع إليه لخلق مساحة حميمية جديدة للتعرف على "الكوكب" ومدى أهميتها كإنسانة تشببهم وفنانة كسرت القيود.
1: الموسيقى
هل سألنا أنفسنا من هو بطل هذا الفيلم فعلًا؟ أو للدقة: من يتحمّل جودة أو سوء استقبال فيلم عن أم كلثوم؟ قد تكون الإجابة الأولى هي المسؤول عن الموسيقى داخله. الموسيقار هشام نزيه. فالفيلم بمثابة أغنية طويلة ممنتجة بين أغنيات متعددة من أغاني الست، يصاحبها طبقة خفيفة من الموسيقى التصويرية الطاغية على أغلب مشاهد العمل.
تحمّل هشام على عاتقه في عامٍ واحد حدثين أكثر قسوة من بعضهما: موسيقى افتتاح المتحف الكبير، وموسيقى فيلم أم كلثوم. وبينما كان الهدف استعراض عراقة كبيرة في موسيقى المتحف، فإن اختياراته في فيلم الست جاءت موفّقة، تؤيد أكثر رهاننا في أن بوصلته كانت تجاه الجيل الجديد أكثر من غيره.
اختار أن يصاحبها من البداية للنهاية بعض كلمات من "ألف ليلة وليلة": الأغنية التي غنّتها أم كلثوم 4 مرات فقط في حياتها، وربما لا يخفى على أحد، امتعاض أو كره أو أحيانًا الغضب من مجرد سماعها لدى عشاقها القدامى الذين يعتبرونها أحد سقطاتها الغنائية، لكنها أكثر ألفة وقربًا من جمهور جديد. فيها مساحات موسيقية خفيفة على الأذن من غيرها. لذلك بقيت هذه الأغنية على رأس الأغاني الـ 15 التي اختار الفيلم التنقّل السريع بينها من تاريخ أم كلثوم كله.
2: السيناريو
ربما هذه المرة الأولى التي يختار فيها الكاتب أحمد مراد، مؤلف الفيلم، أن يشاركه كتابة المعالجة شخصًا آخر. تأتي السيناريست والمخرجة الشابة هنا محمود، صغيرة السن، بفيلم قصير واحد، جيد الصنع كنت قد شاهدته قبل سنوات، لتقدّم المعالجة معه، بعيون جيل مختلف للست.
يفهم مراد جيدًا سرعة ملل الجيل الجديد الذي اعتاد منصات لا تتركه أمام شيئًا واحد أكثر من دقائق، لذلك يختار التحليق والطير سريعًا على مسيرة أم كلثوم دون توقّف كبير عند حدث بعينه قد يُنتج صدامًا ما. يمكنك أن تقسّم الفيلم إلى سكتشات ممتعة للفرجة والتأمل، في فيلم اختار بذكاء أن يأتي قرابة الثلاث ساعات، يتنقل بين كافة الأحداث دون تورّط في أيًا منها، ليصبح ظاهريًا مناسبًا للفكرة العامة لدى الجيل الجديد عن التطويل في أغنيات وحكايات "الست" لكن بإيقاع لا يتوقف.
3: الإخراج
هذه ليست المرة الأولى التي يتعاون فيها المخرج مروان حامد مع مراد. أمست رغبة الثنائي في التوصّل إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور طاغية، ربما هذه هي السينما، لكن دون التهاون أو الاستسهال.
يختار مروان حامد بروزة الأحداث الأكثر إبهارًا بصريًا. إذ يبدأ الفيلم من لحظة ذروة في حياة "الست" والبلد كلها، أثناء وجودها في فرنسا، بلحظة مرتبكة عربيًا وعالميًا. مدخل مثالي للتعريف بشخصيتها للجمهور الجديد، يظل المشاهد لدقائق يسمع عن أم كلثوم التي يتهافت الناس عليها في فرنسا ومصر، لكن دون أن يراها، مما يزيد فضول المستمع نحوها. وسريعًا ما يتوقف عند هذا الحدث ليأخذ دورة طويلة على أحداث حياتها كلها الأقل إبهارًا بعد أن يورّط المشاهد بصريًا بشكل كامل. ولا يتوقف كذلك عن ترجمة تحليق السيناريو بالتحليق البصري والتنقّل بين الكادرات المختلفة والتقطيع الحاد السريع الذي يلفت الأنظار حتى نهاية الفيلم.
4: التمثيل
الفيلم لديه "بطل" أو كاريزما كما يحب الجيل الجديد لفظها، هذه الكاريزما تبيع نفسها. كل حركة لممثل أو لحدث في الفيلم تدور فقط حول أم كلثوم. العالم يدور حولها، ليس العكس. يختار الصنّاع حياتها الشخصية بدلًا من مسيرتها الفنية الطويلة للبروزة بسبب جيل يغريه الذاتي على حساب العام أو الحميمي المباشر على حساب المجازي البعيد.. لذلك بدت "منى زكي" هي المرتكز؛ إذا نجحت نجح كل شيء. وربما التفكير في اختيارها عمومًا جزءً أصيلًا من ذلك، لأنها ببساطة لا تشببها ظاهريًا لكن الرهان من البداية كان في اعتبارها مجازًا للحكي ليس لمجرد اختيار أشياء تشبهها فعلًا يحبها الجمهور.
الممثلون الآخرون جميعهم كانوا مجرد ضيوف شرف في حياة "الكوكب"، وإذا كان ذلك قد أضر بشيء، فربما في التجويد النسبي لتطويل أو بروزة بعض الشخصيات، مثل كريم عبد العزيز/ شريف صبري باشا، حبيبها الذي رفضها أهله لأصولها القروية. الذي حاز أكبر من حجمه دون خدمة كبيرة في السيناريو.
وربما لذلك كانت أزمة الفيلم الحقيقية في إظهارها العابر داخل "التريلر"، الذي تسبب في كل الارتباك المبرر وغير المبرر لدى الجمهور، الذي لم يعتد تمامًا على رؤية أم كلثوم عن قرب، ظاهريًا في صورتها، وباطنيًا في تفاصيل حياتها الشخصية إذا كان يعرف بعضًا من تفاصيلها. لكن الجيل الجديد الذي قد لا يعرفها أبدًا أكثر قابلية للرهان على إظهارها من قريب كشخص لديه مزايا وعيوب، خائفة أو مرتبكة أو تطمع في نجاح لم يصل إليه إنسان قبلها.
5: كلمة أخيرة عن أم كلثوم ومن خلالها
دون سخرية، ربما باتت الأزمة الأساسية في "أم كلثوم" ذاتها. أو في الافتراض المسبق عن نظرة الجمهور للظاهرة أم كلثوم نفسها، أي ربما لتوقعاتنا الشخصية فيما نريد أن نراه عن أم كلثوم. وبينما اختار الصنّاع، لحسن حظهم أو لسوءه، أن تُتاح أمامهم الفرصة للكلام عن أفكارهم من خلال هذه الشخصية. اختاروا بروزة "الست" التي جاءت على قمة مجتمع من الرجال. سيدة وقفت على قمة الهرم كمعجزة صوتية بدأت من العشرينيات وماتت في منتصف السبعينيات، ولم تفقد بريقها حتى كتابة هذه السطور.
يطرح ذلك سؤالًا كبيرًا عن الفن عمومًا: هل يمكن أن نتحدث عن أفكارنا حول الحياة من خلال أعلامنا الكبار؟ وما هي السينما والموسيقى لو لم تكن أفكارنا عن الآخرين؟ السينما صناعة كبيرة تحتاج إلى جمهور وأرضية ومعرفة مشتركة للنقاش، وربما لا توجد شخصية فنية تجتمع فيها كل تلك الأسباب أكثر من أم كلثوم، التي قد تحتاج كل عام إلى فيلم يحمل نظرة صاحبه عنها أو حقائق تخصّها توثّق تفاصيل حياتها.
الفيلم جمع أكثر من 12 ملايين قبل نهاية أول أسبوع من عرضه، وربما من الذكاء الرهان أكثر على خفة محتوى فني يعتمد على رحلة ثقيلة وقاسية وشديدة التركيب مثل هذه الرحلة. فيلم جيد يجمع بين الموسيقى والسينما، في لحظة مرتبكة يتحسس فيها الجميع من الرهان الإنتاجي أو الخطابي.






