أول مرة قابلت فيها أنغام كانت منذ عشر سنوات في ستوديو موزع موسيقي شهير تربطنا به صداقة مشتركة. تحدثنا عن الموسيقى والفن والحياة. إلا أنني التقطت ملمحًا هامًا في شخصيتها عندما تحدثَت عن إبنيها عُمر وعبد الرحمن. قالت: أضع لهما نظامًا صارمًا، خصوصًا في مواعيد النوم والاستيقاظ وتناول الوجبات، فتكوين شخصية أي إنسان ناجح يبدأ باحترام النظام والإيمان بأهميته.
حكمة عابرة، لكنها مرآة صادقة لمسيرة أنغام التي يمكن اختصارها في كلمتين: الالتزام والدقة. أنغام، التي ولدت في بيت الموسيقار محمد علي سليمان، عاشت طفولتها في مناخ أشبه بمشروعات إعداد أبطال الأولمبياد، تدرس الموسيقى صباحًا في المعهد العالي للموسيقى وتتدرب على الغناء والبيانو طوال ساعات اليوم.
الحقيقة أن أنغام لم تكن فقط ابنة محمد علي سليمان الذي شكل موهبتها كما تمنى، بل أيضًا ابنه روحية لمحمد عبد الوهاب الذي لم يكتب القدر أن تغني من ألحانه، باستثناء أغنية "بسبوسة" التي سمعها تغنيها فأعجب بها ووافق على أن تؤديها في ألبومها الأول.
لكنها استلهمت من مسيرة موسيقار الأجيال دستورًا لمشوارها، حتى أنها قالت في لقاء مع الإعلامي عمرو أديب: "عبد الوهاب هو الكتاب. أي حد غنى قبله أو بعده لا يقارن به. هو الصوت الوحيد الذي يؤثر في حالتي النفسية".
بصمات عبد الوهاب
أنغام هي التلميذة الأنجح في مدرسة عبد الوهاب، والأكثر تعبيرًا عن قواعدها. ظهر ذلك في بداياتها الفنية حين التزمت بالطابع الكلاسيكي "الوهابي" في ألبومها الأول "الركن البعيد الهادي" الذي أصدرته عام 1987 وعمرها 15 عامًا فقط. تلك الصبغة الوهابية صاغها والدها معتمدًا على الألحان الشرقية الطربية، والمقدمات الموسيقية الطويلة، والكلمات الرومانسية، في قالب كلاسيكي بعيد كل البعد عن المشهد الغنائي المصري المندفع وقتها نحو الموسيقى الإلكترونية.
ومثلما تمرد عبد الوهاب في مسيرته على فكرة التخت الشرقي وخرج محلقًا نحو القوالب الموسيقية العالمية، تمردت أنغام على الكلاسيكية وخرجت من عباءة والدها بشكل كامل في ألبوم "بقولك ايه" (1995) الذي قدمت فيه أفكارًا طازجة مع موسيقيين من أبناء جيلها مثل الموسيقار أمير عبد المجيد والشاعر وائل هلال. وكان أبرز ملامح هذا التغيير أغنية "لو حسيت" التي قدمت من خلالها لأول مرة قالب الفلامنكو الإسباني المطعّم بروح اللاتين بوب .
لكن هذا التطور لم يدفعها لمجاراة الموضات المسيطرة على ساحة الأغنية المصرية في التسعينيات، وتحديدًا موجة الفيديو كليب الذي كان النافذة الوحيدة والأبرز لتسويق أغنيات نجوم المرحلة، إلا أن تعامل أنغام مع الصورة كان هادئًا ومنضبطًا ومعبرًا عن رصانتها الفنية.
التحرر بلمسات الفولكور
لكن التحول الجذري في مسيرة أنغام الفنية ظهر عام 1998 عندما قدمت ألبومها الثالث عشر "وحدانية" لتكشف عن شخصية أكثر جرأة على مستوى الموسيقى والكلمة؛ هوية منفتحة على شعراء وملحنين من نجوم المرحلة في مقدمتهم بهاء الدين محمد ورياض الهمشري وزياد الطويل، وبصمات واضحة للشاعر الراحل عصام عبد الله الذي مازالت تنهل من تاريخه حتى الآن.
ظهرت ملامح هذا التجديد بوضوح في أغنية "وحدانية" التي كتبها عصام عبد الله ولحنها أمير عبد المجيد ووزعها فهد في تزاوج مدهش بين الفانك والفولكلور الصعيدي، وظهر صوت المطربة الشعبية فاطمة سرحان ليصبغ الأغنية بروح التراث المصري.
الغناء للطرف الثالث
في نفس الألبوم التقطت أنغام خيطًا لواحد من ملامح شخصيتها الغنائية وهو فكرة "الطرف الثالث" في العلاقات، وذلك من خلال أغنية "بتحبها ولّا" التي كتبها بهاء الدين محمد ولحنها رياض الهمشري ووزعها أشرف محروس.
في تلك المرحلة بدأت أنغام نوعًا من "التشريح الغنائي" لأنماط هذه العلاقات الثلاثية بجرأة أكبر، لتصبح ماركة مسجلة باسمها في أغنيات مثل "عرّفها بيّا"، "أهي جت"، وأخيرًا "خليك معاها" في ألبوم "تيجي نسيب" العام الماضي، الذي دخلت منه 12 أغنية ضمن صدارة قوائم "بيلبورد عربية".
ليس هذا فقط، بل إن الغناء للعلاقات العاطفية المرهقة والصعبة بأسلوب درامي مفعم بالشجن بات جزءًا من تركيبتها الفنية التي تخطف قلوب عشاقها في أغنيات مثل "بين البينين"، "بقيت وحدك"، "أكتبلك تعهد"، "ياريتك فاهمني"، "مهزومة".
هوية متجددة عبر الزمن
مثلما قدم محمد عبد الوهاب للمستمعين في الوطن العربي أقوى هوية موسيقية لفنان، بدأت أنغام هي الأخرى تفرض هويتها أو ما يسمى بالبيرسونا (Persona) التي تعكس صورة ذهنية لدى الجمهور عن فنانهم، أبرز ملامحها على الإطلاق هي الاستمرارية. فعلى مدار ما يقرب من أربعين عامًا قدمت 29 ألبومًا، وهو رقم ضخم يعكس التزام وصرامة لدى فنانة حريصة على تقديم منتج فني مستمر ومتجدد، لم تتورط في الجري وراء الموضات الموسيقية التي لا تناسبها.
قدسية المسرح
وضعت أنغام قواعد شديدة الصرامة لحفلاتها، حيث يجب أن تصاحبها أوركسترا كاملة، بالإضافة إلى شروط واضحة في جودة تقنيات هندسة الصوت والإضاءة؛ برنامج غنائي دقيق لكل حفل تسبقه بروفات مكثفة لا تهاون فيها.
حكى لي عازف شهير أن أنغام إذا اضطرت لاستبدال عازف واحد فقط قبل أحد حفلاتها تشترط أن تجري بروفة كاملة للفرقة في حضوره كي تضمن جودة ما يقدمه. هذه الدقة انعكست على جمهور حفلاتها الذي أصبح مرتبطًا ببرنامجها الغنائي، يحفظون عن ظهر قلب كل أغنية وترتيبها، من القاهرة إلى الرياض وجدة، تحولت حفلات أنغام إلى احتفاليات غنائية لعشاق الطرب الأصيل.
وحتى حياتها الشخصية، أحاطتها بسياج عالي من الخصوصية يحمي صورتها الذهنية لدى جمهورها، ولم تسمح بتمرير إلا ما تراه لائقًا. لم تدع حياتها الخاصة تؤثر يومًا على مسيرتها. إخلاص متناهي يعكس إيمانها بفلسفة عبد الوهاب بأن ما يقدمه الفنان ملك جمهوره، بينما حياة الفنان نفسه ملكه هو فقط ويجب أن تظل كذلك.