عند سماع ألبوم "حبيبنا"، يبدو لنا أن صنّاع العمل، وفي مقدمتهم أحمد سعد والمنتج الفني للألبوم محمد جابر، أرادوا صناعة ألبوم متكامل بحرفة عالية، لا مجموعة أغاني هيت متفرقة فقط.
أرادوا وضع ألبوم له ثيمة موحدة الإحساس والرؤية عبر أغانيه التسع، يقدم جانبًا جديدًا من شخصية أحمد سعد الفنية مع بداية العام 2025. أكبر دليل على ذلك هو غياب أي حملات ترويجية أو تشويق سبق الألبوم. تم الإعلان عنه وصدر دفعةً واحدة في اليوم التالي وكأنهم يرسلون رسالة للجمهور: صنعنا هذا العمل لأنفسنا قبل مدة واستمتعنا به، فسنتركه لكم هنا إن أحببتم سماعه.
بمجرد صدوره أثار الألبوم حماسة فريقنا، فتناولناه بالمراجعة والتحليل كمشروع متكامل. لكن الألبوم - على عكس توقعاتنا- لم يحقق الجماهيرية التي يستحقها في الأشهر التالية، ولم يحصد أرقام الاستماع الكافية لتوصيله لمراتب الصدارة على قوائم الاستماع. فما الذي جرى؟
"ريمونتادا" أحمد سعد
قبل أن نغوص أكثر في الذي حصل بعد ألبوم "حبيبنا"، لابد من الحديث عما حصل قبله. عرفت مسيرة أحمد سعد "ريمونتادا" غير متوقعة، شهدها جمهور العالم العربي بأكمله خلال الأعوام الثلاث الماضية. كانت رحلته قد انطلقت أساسًا في بداية الألفية، لكنه لم "يضرب" فعليًا على نحو يضمن له الاستمرار والنجومية، وتوارى اسمه بين نجوم جيله.
ثم جاء العام 2022، وافتتحه أحمد سعد بأغنية "عليكي عيون" التي علمنا لاحقًا أنها كانت إهداءً منه لزوجته علياء بسيوني في الأشهر الأولى من ارتباطهما، وقد لحنها بنفسه، وكتب كلماتها محمد شافعي. وبدأت الأغنية الرومانسية تنساب إلى مسامع الجمهور بهدوء طوال أشهر. تلاها صدور أغنيتيه "إيه اليوم الحلو ده"، و"وسع وسع". لم ينته صيف العام إلا وقد أصبح صوت أحمد سعد في كل مكان!
أحمد سعد نفسه أصبح في كل مكان. تتالت الهيتات. سمعنا منه "اختياراتي مدمرة حياتي" و"قادر أكمل" و"يا ليالي" مع روبي، وكلها أغاني تجاوزت المئة مليون استماع على يوتيوب وحده. انطلق سعد في نشاط حفلات كثيف من الخليج إلى المحيط. غنّى تترات للسينما والتلفزيون، وقدم عشرات الإعلانات في كل موسم.
أغاني الطاقة والمرح!
بدا حينها أن الجمهور أحب طاقة أحمد سعد الإيجابية بشكل أساسي وقبل كل شيء. كانت كل عناصر هذه الأغاني متكاملة ومختلفة على نحو جعلها تبرز بشكل خاص. كلمات دافئة حتى حين تكون كوميدية، ألحان وتوزيعات حيوية، وخامة صوته الخاصة تغلف كل العناصر بدقة وإحكام وتمكن.
كذلك، ظهر في العديد من المقابلات. قدّم نفسه خلالها في شخصية الشاب المرح والودود. وهو كذلك، كما يشهد له زملاؤه في الوسط الفني -فرد تامر عاشور مقطعًا مخصصًا من مقابلته على غلاف بيلبورد عربية للحديث عن مواقف طريفة تجمعه بأحمد سعد. انتشرت من مقابلاته مئات المقاطع على السوشال ميديا تحت عنوان "قلش" أحمد سعد، وهي فقرات يلقي فيها نكات سريعة سخيفة إلى درجة مضحكة، رسخت أكثر تصورًا كوميديًا عن شخصيته.
تحت عدسات الكاميرات، انزلق إلى بعض الإطلالات غير الموفقة، تناولها الجمهور بالكثير من السخرية، فخرج هو في لقاءات وسخر من نفسه معهم. كانت خطوة جريئة وصادقة منه في البداية: الاعتراف بأنه يخطئ التقدير في بعض الأحيان حين يتعلق الأمر بالأزياء. لكن الأمر بدأ يتكرر كثيرًا، إذ لم يرغب أحمد سعد بتقديم نفسه في قالب الفنان الكلاسيكي. استمر يحاول الظهور بإطلالات تشابه ستايل الرابرز الشباب. وفي كل مرة تقابل بالهجوم، يظهر هو من جديد ويشارك في التعليقات الساخرة.
كل ذلك وضعه في قالب معين لدى الجمهور. افترضوا بعده أن كل ما سيأتي من طرفه سيأخذ طابعًا مرحًا وكوميديًا. فبين الظهور الإعلامي الكثيف والـ"قلش" وخيارات الأزياء، وتحديات تيك توك الراقصة، والفيديوهات العفوية على السوشال ميديا، ذاب كل الغموض والخصوصية حول شخصية سعد الفنية، حتى بات في علاقته مع الجمهور وكأنه ذاك الفرد في "الشلة"، الذي يحبه الجميع، لكنهم يحبون أكثر أن يمازحوه ويغيظوه كلما اجتمعوا.
ثم جاء ألبوم "حبيبنا" بنسخة مختلفة كليًا من شخصية أحمد سعد.
أحمد سعد العميق!
نزع الألبوم الجديد عن الأغاني عناصر الكوميديا والفرفشة التي سمعناها منه في أغانيه السابقة، وتوجهت لمساحات أكثر عمقًا. فالشاعرة منة القيعي التي كتبت له في السابق "اختياراتي مدمرة حياتي"، كتبت له أغاني "تيجي نحارب" و"سودا سودا" بلغة رقيقة. أما أحمد إبراهيم فلحن وكتب له كلمات أغنية "بسيط"، حيث تبنى نبرة مكاشفة جعل الأغنية تبدو شخصية للغاية: "أنا حد من شيل الهموم بيبان عجوز/ ولا ليه معارف أو في يوم كان ليه نفوذ / فأنا لو خسرتك عادي ما أنا بخسر كتير/ وإن فزت بيكى هتبقى أول مرة أفوز/ بسيط .. إنسان بسيط/ دا ولا في إيديه ولا حيلته غير كلمة ياريت".
ورغم تنوع المواضيع، انضبطت كل أغاني الألبوم على ثيمة موحدة التزمت بالنغمات والتوزيعات اللاتينية. أوتار الجيتارات الإسبانية الأكوستيك منحت كل الأنغام - حتى الحيوية منها- لمسة شجن. في بعض أغاني الألبوم مثل "لو تيجي"، اكتشفنا أبعادًا جديدة لصوته وهو يغني في الطبقات المنخفضة كما لم نسمعه من قبل.
لم يطلق فيديو كليبات لأغاني الألبوم، بل رافقتها فيديوهات بصرية (Visualisers) يمكنك مشاهدتها فيما تسمع الأغاني. عبر هذه الفيديوهات يظهر أحمد سعد وهو جالس أو واقف أو يتحرك بهدوء داخل غرف بيت عتيق في القاهرة، يتأمل كل ما حوله بهدوء فيما يسمع أغاني ألبومه. يتفاعل مع موسيقاها بإيماءة رأس أو ابتسامة خافتة.
بدا أن شعراء الأغاني وملحنيها والموزعين، كلهم تلقوا إرشادات موحدة حول رؤية العمل، فأدوا الواجب على أكمل وجه. أما أحمد سعد فبدا أكثر جدية.
كان هذا المنتج الفني متكاملًا بصوته وصورته، ومختلفًا عن كل تصور وضعه الجمهور عن الفنان، وكأنه نتج عن فهم أعمق من الكتاب والملحنين ومنتج الألبوم والمصورين والمخرجين للبّ شخصية أحمد سعد الفنان، وحساسيته، وفهمه وذائقته الموسيقية الحقيقية، لا تلك التي يبحث عنها السوق.
مع ذلك لم تصل العناصر الفنية في الأغاني لعشرات ملايين المستمعين كما فعلت "اختياراتي" و"إيه اليوم الحلو ده". ربما لأن شريحة واسعة من الجمهور تتابع الفنان لأجل جانب معين فقط من شخصيته الفنية. لكن ذلك لا يتعارض مع كون ألبوم "حبيبنا" هو أفضل ألبوم في مسيرة أحمد سعد حتى الآن، وأكثر ألبوم ظُلم جماهيريًا منذ بداية العام.
في انتظار "الخلطة السحرية"
كلما فكرت في مسيرة أحمد سعد وشخصيته الفنية، يعاودني حديثه في مقابلة سابقة تحدث خلالها عن أدائه في حفل روائع السنباطي في موسم الرياض 2023. كان الفنان قد تابع تعليقات من الجمهور قبل موعد الحفل تستغرب إدراج مشاركته في حفل طربي كهذا، واعتبر أنهم بعد الأغاني الخفيفة الحيوية التي قدمها، قد شككوا بقدراته ونسيوا خلفيته الدارسة والمختصة باللون الطربي، فخرج ليلتها إلى المسرح وهو "عايز ياكل المايك".
كان واضحًا لي في روايته لهذه الحادثة، الصراع الداخلي الذي يعيشه أحمد سعد كفنان. هو يدرك كيف تُصنع أغنية "الترند"، وكيف يبقى حاضرًا بكثافة في المشهد الفني، لكنه من ناحية أخرى يرغب في صناعة موسيقى تشبهه، أكثر عمقًا وتجريبيةً. وقد يبدو اليوم أنه في صراع بين هاتين الحاجتين، لكنه إذا أتقن الخلطة السحرية للموازنة بينهما، فستكون تجربته بلا شك، أبرز ما خرج لمشهد البوب في العالم العربي خلال العقد الحالي.