"من مواليد أكتوبر شهر العظماء" جميلة شهيرة عرفها جمهور كرة القدم المصرية على لسان المعلق الرياضي الراحل ميمي الشربيني، وللمفارقة فأن هذا الشهر يضم في مواليده قائمة من الأساطير، ليس في ملاعب الساحرة المستديرة، بل في تاريخ الأغنية المصرية.
محمد منير وعمرو دياب صاحبا المسيرة الأبرز في الأغنية المصرية الحديثة، أو كما يلقبهما الجمهور بـ "الملك" و "الهضبة" يتقاسمان التاريخ والشعبية، ويحتفلان هذه الأيام بعيد ميلادهما. صحيح أنهما مختلفان شكلًا ومضمونًا، إلا أن القدر كتب العديد من الصفحات المشتركة في تاريخهما.
هاني شنودة الأب الروحي
الموسيقار هاني شنودة، الأب الروحي و مفتاح مسيرتي الكينج والهضبة، لهذا لم يكن غريبًا أن يقف الإثنان على مسرح أبو بكر سالم منذ سنوات ليغنيا معًا أغنية "أمي الحنونة" تقديرًا له في حفل تكريمه الذي نظمته هيئة الترفيه بالمملكة.
التقى هاني شنودة بمنير في نهاية السبعينيات، كان الأخير في طريقه للغناء تحت عباءة بليغ حمدي، إلا أن شنودة رأى في محمد منير نواة نجم متحرر من قيود الغناء الكلاسيكي، فصاغ ملامح مشروعه الغنائي مع الموسيقار النوبي أحمد منيب والشاعر عبد الرحيم منصور ليقدموه في ألبومه الأول "علموني عنيكي" عام 1977 .
بعدها بسنوات وتحديدًا في مطلع الثمانينيات ذهب عمرو دياب إلى هاني شنودة بعد حفل لفرقته "المصريين" في مدينة بورسعيد .
حكى لي الموسيقار هاني شنودة في مذكراته التي نشرتها عام 2020 أن أول جملة قالها له عمرو دياب هي: "نفسي أبقى حاجة"، وهي السر الذي جعله يؤمن به وينصحه بالسفر إلى القاهرة لدراسة الموسيقى وبدء رحلة احتراف الغناء، وهناك قدمه شنودة للإذاعة المصرية وعرفه على الوسط الفني، وساعده في صناعة ألبومه الأول "ياطريق" الذي صدر عام 1984، بل واصطحبه إلى التلفزيون المصري وأقنع المخرج فتحي عبد الستار أن يصور له أغنية "الزمن" والتي تعد أول ظهور رسمي لعمرو دياب على شاشات التلفزيون.
الهوية الفنية من النيل إلى البحر!
يشترك الكينج والهضبة في كونهما ليسا من أبناء القاهرة، والمفارقة أن "القاهرة" كانت رغم ذلك عنوان الدويتو الوحيد المشترك بينهما والذي قدماه منذ عشر سنوات في محبة المدينة التي جاءا إليها بحثًا عن حلم النجومية.
منير ابن أسوان المُتشبع بثقافة النوبة، وإيقاعاتها الإفريقية عاش طفولته على شاطيء النيل، فانحاز عبر مسيرته للجذور والأصالة والفولكلور الجنوبي لينقل هذا التراث للوطن العربي والعالم.
أما عمرو دياب فجاء من بورسعيد المدينة التي تطل على شاطىء البحر المتوسط فأصبحت نقطة التقاء ثقافات عدة.
كونت هذه البيئة شخصيته الفنية المنفتحة على العالم الآخر، حتى عندما بدأ مسيرته مستعينًا بملامح من الفولكلور الموسيقي لمدن القناة مثل إيقاعات السمسمية، كان هدفه مزجها بالموسيقى الغربية، فظلت عينه دائمًا على الإيقاعات والأشكال الموسيقية الغربية وكيفية مزجها بلغته العربية وألحانه الشرقية .
من "شبابيك" إلى "نور العين".. أغاني غيرت الموسيقى المصرية
تُقاس أساطير الغناء بما قدموه من تغيير حقيقي في شكل الموسيقى، عشرات التجارب الممتدة منذ عقود لم تملك التأثير الحقيقي، فظلت مجرد رقم في معادلة الشهرة والنجاح. إلا أن الكينج والهضبة كانا صاحبي النقلتين الموسيقيتين الأبرز في شكل الأغنية المصرية الحديثة خلال النصف قرن الأخير.
في عام 1981 أطلق محمد منير ألبومه الثالث "شبابيك" مع فرقة يحيى خليل. شكل الألبوم طفرة في سوق الكاسيت، ورفع الستار عن الغناء الذي يمزج بين العاطفة والفكرة الفلسفية والقضية الاجتماعية في تآلف مدهش، فغير تفكير صناع الموسيقى تجاه ما يقدمونه من أغاني، وشجع جيل جديد من المطربين والموسيقيين على بداية مسيرتهم تأثرًا بهذا الألبوم وعلى رأسهم عمرو دياب نفسه .
وفي عام 1996 أصدر عمرو دياب ألبومه الأيقوني "نور العين" ليصل به إلى العالمية، ونال عنه جائزة الموسيقى العالمية كأعلى الألبومات مبيعًا في الشرق الأوسط، وردد العالم "نور العين" بنسخ ولغات متعددة. لكن الأهم أن دياب كسر بنجاح "نور العين" كل قواعد الأغنية الرائجة في حقبة التسعينيات، خرج من عباءة المقسوم الشرقي وغامر بتقديم موسيقى الفلامنكو الإسبانية، في وقت كان الجميع فيه مكتفيًا بالنجاح بين شاطئي الخليج العربي والمحيط الأطلسي.
التأثير الاجتماعي في الأجيال المتعاقبة
تحول منير في نهاية التسعينيات من مطرب النُخبة المثقفة إلى "الملك" الذي يغني معه آلاف الشباب "سو يا سو" في ساحة الأوبرا، غير منير بوصلته سريعًا عندما فطن أن النخبوية والغرق في الغناء الاجتماعي والسياسي لن يصنع أسطورته الخالدة.
تعاون مع المنتج نصر محروس ليعيدا تقديم الفولكلور بطريقة جديدة، حرر مساحات مشروعة الفني ليميل إلى الرومانسية "الشعبوية" في مواضيع أغانية، والإيقاعات الراقصة في توزيعاتها، وصدّر للجيل الجديد صورة ذهنية أقرب إلى روح "بوب مارلي" وحولها إلى موضة يقلدها "المنايرة" في ملابسة المزركشة وتسريحة شعره البوهيمية وكأنهم دراويش هائمون في محبته.
أما عمرو دياب فقدم نفسه منذ بداية التسعينيات كنموذج للموضة، جعل من صورته المتجددة مرآة تعكس التغيير والتطوير المستمر في موسيقاه، فأصبح النموذج الذي يقلده غالبية الشباب في تسريحات الشعر، والملابس، من الجاكيت الجلد الى بلوفر "تملي معاك"، والغناء بالشورت في حفلات العجمي ومارينا، وصولًا إلى الجيل زد الذي يرتدي البناطيل والسترات الواسعة والإكسسوارات الملفتة.
الاستمرارية والإخلاص للمشروع
المتأمل في مسيرة محمد منير وعمرو دياب سيكتشف ببساطة أنهما كانا الأكثر قدرة على الاستمرار لسنوات طويلة دون توقف، لم يكفا عن إصدار الألبومات والأغاني وإحياء الحفلات، ظل شغفهما تجاه الغناء متوهجًا رغم التحولات الاجتماعية والفنية التي عاشاها عبر أزمنة مختلفة.
كلاهما تنقلا عبر شركات الإنتاج المختلفة، وتعاونا مع أبرز المنتجين، ولم تؤثر هذه التنقلات على شكل مشروعهما وهويته. كلاهما ظل قادرًا على مخاطبة أي جيل جديد بطريقته وهو ما جعلهما يبنيان رصيدًا ضخمًا من الجماهيرية عبر الزمن.
للمفارقة فإن كل منهما يحمل تقديرًا كبيرًا للآخر، يُعلق منير في الاستوديو الخاص به بمنزله صورة عمرو دياب بجوار صور عظماء الأغنية المصرية، عندما رأيت الصورة في إحدى زياراتي له سألته عن سر اختياره لعمرو بجوار كمال الطويل و بليغ وعبد الوهاب وغيرهم فقال لي: "هؤلاء كريمة مصر الفنية وعمرو واحد منهم" .
أما عمرو دياب فيضع صورته مع محمد منير في بهو مكتبه الخاص، تقديرًا لفنان قال عنه من قبل أنه كان المؤثر والحافز الذي دفعه للمجيء إلى القاهرة والغناء، والانطلاق في رحلة امتدت لأربعة عقود لاحقة.