لطالما كانت الهوية البصرية عنصرًا جوهريًا في مشروع مروان بابلو الفني، لا تُستخدم كزينة مكمّلة للصوت أو الكلمات، بل كامتداد مباشر لشخصيته ورؤيته. فالصورة عنده ليست خلفية، بل جزء من السردية؛ لغة موازية يخاطب بها الجمهور كما يخاطبهم بالموسيقى. ومنذ بداياته، أدرك بابلو كيف يوظّف اللقطة والإضاءة وحضوره أمام الكاميرا لصناعة كاريزما يصعب تجاهلها، تجعل المتلقي لا يكتفي بسماع الأغنية بل ينجذب إلى الطريقة التي تُقدَّم بها بصريًا.
يمتلك بابلو قدرة خاصة على أسر الانتباه حتى في لحظات السكون؛ فصمته يقول، ونظرته تحكي، والأداء الهادئ يتحول إلى سرد مكثّف من دون كلمة إضافية. ولهذا بات كل فيديو يقدّمه تجربة كاملة تُقرأ بصريًا بقدر ما تُسمع.
وفي هذا المقال، نقف عند أبرز محطاته المصوّرة لنفهم كيف استطاع، حتى بأقل الإمكانيات، أن يبني هوية بصرية متفرّدة أصبحت علامة مسجلة باسمه في المشهد المصري.
سنة جديدة 2019
مثّل الهيب هوب حجر الأساس في تكوين هوية مروان بابلو، ليس بوصفه نمطًا موسيقيًا فقط، بل مساحة وجد فيها نفسه ولغته وتمرّده. وعندما قرر التخلي عن شخصية "داما" وبدء صفحة جديدة تحت اسم "بابلو"، جاء فيديو كليب "سندباد" الصادر في فبراير 2019 كواحد من أوائل الملامح البصرية لهذا التحول، ضمن موجة موسيقية جديدة كان بابلو أحد أعمدتها.
ورغم بساطة الإمكانيات التي عمل بها المخرج نور الملاح، لم يفقد الكليب تأثيره؛ بل على العكس، استطاع أن يقدّم بابلو في موقع المركز لا الهامش. اعتمد العمل على لقطة رأسية ثابتة تُظهر وجه بابلو وهو مستلقٍ على الأرض، بينما تتبدل الخلفيات، من حديقة إلى سجادة إلى أرضية مبلّطة وصولًا إلى صخور البحر المتوسط. ثبات ملامحه وثقته في الأداء منحا الصورة قوة إضافية، كأن الكليب يقول: "لا أحتاج مؤثرات… حضوري وحده يكفي."
كان هذا التوازن بين البساطة الشديدة واليقين الكامل بالنفس بداية ملامح الكاريزما التي عرّفت بابلو لاحقًا؛ أداء صادق، رموز بصرية واضحة، ونبرة تُمهّد لمشروع فنان يخطّ لنفسه طريقًا مختلفًا منذ اللحظة الأولى.
https://youtu.be/mAOQ3_boEkQ?si=eCNn_MrzkGBM-FU5
أنا هروح الجميزة
كان إصرار مروان بابلو على تطوير أدواته التعبيرية جزءًا أساسيًا من صعوده، وخصوصًا في الفيديو كليبات التي أصبحت نافذته الأولى لجمهور يبحث عن فن يشبهه ويتحدث بلغته. ومع "الجميزة" انتقل بابلو إلى محطة بصرية أكثر نضجًا؛ جودة صورة أفضل، لغة سينمائية أوضح، لكن دون أن يتخلى عن جوهر حضوره: الكاريزما الخام والأداء الصادق.
أخرجت ريهام عبلة الكليب وقدّمت رؤية بصرية داكنة وعالية الرمزية. يظهر بابلو فيها وهو يتخلص من خصومه عبر وضعهم في أكياس سوداء وجرّها أرضًا، في سردية تُحاكي صراعًا داخليًا أكثر مما تحاكي جريمة واقعية. كانت حركة جسده، سكونه، وتعبيرات وجهه عناصر سردية موازية للكلمات، تُكمل ما يقوله صوتيًا بما يقوله بصريًا.
بهذا العمل، بدا واضحًا أن بابلو لم يعد مجرد رابر يصنع تراكات ناجحة، بل فنانًا يطور لغته البصرية ويُخضعها لرؤيته. "الجميزة" كانت إعلانًا مبكرًا عن قدرته على الجمع بين الأداء التمثيلي والحضور الموسيقي في إطار واحد متماسك.
https://youtu.be/TsFyVoyUFBc?si=_P8U-5BID8cZrZlj
لو تتجن تبقى Free
جاء تراك "Free" ليكون العلامة الفارقة التي ختم بها مروان بابلو عام 2019، ليس على مستوى الموسيقى فقط، بل على مستوى الصورة أيضًا. الكليب الذي أخرجه محسن شريف شكّل ذروة النضج البصري في تلك المرحلة من مسيرته، مؤكّدًا أن مشروع بابلو بات يتجاوز حدود الأغنية إلى بناء عالم كامل له هوية جمالية خاصة.
يظهر بابلو في بداية الكليب داخل سيارة مرسيدس قديمة، في صورة تحمل دلالات واضحة عن القوة والصلابة والأصالة، وكأن الزمن لا يقلل من قيمتها تمامًا كما لا يقلل منه. وفي لمحة قصيرة لكنها محمّلة بالمعنى، نرى مولوتوف جالسًا إلى جانبه فوق السيارة، كتحية صامتة لشريك الرحلة الذي أسهم معه في تشكيل ملامح صوته خلال تلك الحقبة.
في النصف الثاني من العمل تنتقل الصورة إلى مستوى أسطوري تقريبًا؛ بابلو يرتدي بدلة زرقاء، ممتطيًا حصانًا كما لو كان فارسًا من زمن آخر، يقف بثبات نظرة ثابتة لا تتزحزح. يتحول الكليب إلى إعلان عن بطل يقود عالمه الخاص، لا يتأثر ولا ينحني.
وتبلغ الرمزية ذروتها في اللقطة الختامية: بابلو يجلس على كرسي ويدخّن بثقة، قبل أن يقول جملته الشهيرة: "أنا مش رابر.. أنا بيكاسو." جملة مختصرة لكنها تحمل كل الفلسفة التي يعلنها في تلك اللحظة؛ هو لا يرى نفسه داخل قالب واحد، بل فنانًا يرسم خطه الخاص بعيدًا عن أي تصنيف.
لم يكن "Free" مجرد فيديو مصاحب لأغنية ناجحة، بل لحظة تحول حقيقية. لحظة أعادت تشكيل سقف التوقعات في المشهد المصري ووضعت بابلو في خانة مختلفة؛ خانة من يصنع صورته بنفسه ويعيد تعريف جيله.
عودة الملك للغابة
في واحدة من أكثر اللحظات إثارة في المشهد المصري، قرر مروان بابلو الانسحاب واعتزال الساحة في 2020، قرار صادم لم يكن له مقدمات وترك محبيه في حالة من الذهول والفراغ. لكن كما فاجأهم بالرحيل فاجأهم بالعودة. ففي فبراير 2021 أطلق بابلو تراك "غابة"ليعلن من خلاله عودته الرسمية بثقة أكبر ورؤية أكثر نضجًا.
أخرج الكليب سليم الصادق الذي قدم صورة سينمائية مفعمة بالرمزية. ظهر بابلو فيه بقصة شعر جديدة متحررًا من كل ما سبق. الكاميرا تدور حوله كما لو كانت تدور حول ملك عاد من منفاه، لا يجرؤ أحد على رفع عينيه عنه. وفي لقطة مؤثرة يقف على منبر عالي يراقبهم، يبادلهم النظرات وكأنه يوجه رسالة صامتة لهم بأنه يراهم.
في مشهد آخر يتجول بابلو فوق ظهر عربة نقل وسط شوارع القاهرة في حركة تفيض بالثقة والتحدي. وكأن وجوده كافي لحلول "البركة". هذا الظهور البسيط شكل لحظة رمزية ذات طابع احتفالي لا تقل عن لحظات تتويج الأبطال.
لم يتأخر الجمهور في التقاط الدلالات الأخرى وبدأت النظريات، البعض تكهن باستحضاره مشهد من فيلم "أرض الخوف" للنجم أحمد زكي في نهاية الفيديو والبعض الآخر غاص في التفاصيل بحثًا عن رسائل خفية قد يكون بابلو دسها عمدًا كما اعتاد أن يفعل، لكنه في كل الأحوال، كان لفيديو عودته تأثير صارخ.
زميلي بيسأل عن "المبدأ"
منذ عودته، ظل مروان بابلو وفيًّا لقاعدة اشتغل عليها منذ بداياته: الظهور حين يجب أن يظهر، والاختفاء حين يصبح الضجيج أعلى من القيمة. لذلك كان صدور ألبومه الطويل الأول "آخر قطعة فنية" في نوفمبر 2023 محطة محورية، ومنها اختار تراك "المبدأ" ليقدّم واحدًا من أكثر الكليبات كثافة رمزية في مسيرته.
أخرج الكليب أحمد كامل، وجاء عملًا بصريًا مقتضبًا في مدته وغزيرًا في معانيه. يبدأ بابلو متخفيًا، قبل أن يلقي سؤاله الحاد: "زميلي بيسأل عن المبدأ وقت المادة بيروح فين؟" لتصبح الجملة مفتاح مواجهة مفتوحة مع كل من تخلى عن قيمه في سبيل المكسب السريع. ومع دخول التراك يتحول بابلو إلى شخصية هجومية، نظراته تقطع الكادر، وصوته يحمل غضبًا محسوبًا لا ينفلت، بل يصيب هدفه مباشرة.
الرمزيات في الكليب تُبنى بصمت. أشخاص يبيعون اللحم بجواره. صورة مكثّفة لعالم ينهش فيه الناس بعضهم البعض. وعلى الجدران تتكدس بوسترات من أغانيه، يقرأها البعض كهجوم، بينما يتعامل معها بابلو ببرود مقصود؛ فهو لا يرد، بل يترك الصورة ترد وحدها. ملابسه صُممت لتبدو كامتداد لشخصيته الجديدة: حادّة، مستقلة، لا تشبه أحدًا.
وفي الوقت الذي يتصارع فيه الجميع على "الترند"، يقف بابلو في منتصف المشهد بلا جهد زائد. هذه المرة لا يصرخ، ولا يلاحق الضوء… بل يصنع ضوءه الخاص. يطرح السؤال، يترك أثرًا، ثم يختفي كما اعتاد. لكن بعد أن يضمن أن الرسالة وصلت.
ماشية معانا بونو بونو
في مارس 2025 أصدر مروان بابلو كليب "بونو" بتوقيع المخرج أبانوب رمسيس الذي بات من الأسماء الأكثر ارتباطًا بتكوين الهوية البصرية لبابلو مؤخرًا. منذ اللقطة الأولى بدا واضحًا أن بابلو وصل إلى منطقة مختلفة؛ منطقة لا تقوم على الصراع أو التحدي، بل على اتزان هادئ وثقة لا تحتاج إلى مبالغة.
يقف بابلو في قلب مشهد واسع بينما تدور حوله سيارات سباق، حركة دائرية تُحيل إلى معنى مباشر: العالم يتحرك، لكن محوره ثابت. هو البوصلة، وليس تابعًا للضجيج. يكتفي بترجيع "ماشية معانا بونو بونو / صحة وستر بونو بونو" بابتسامة خفيفة ورقص غير متكلّف، وكأنه يعلن أن السلام الذي وصل إليه أهم من أي انتصار خارجي.
الأبرز في الكليب أن بابلو تعمّد التخلي عن العلامة التي طبعت بداياته: الانفعال بالصمت ونظرات التحدي. هنا يقدّم نفسه بنبرة مختلفة: هادئ حدّ الحياد، لكنه لا يفقد لحظة واحدة من قوة حضوره أمام العدسة. هذا النوع من الثقة لا يُصنع، بل يأتي نتيجة نضج حقيقي وتجربة بدأت بالاكتشاف ثم مرت بالمنعطفات وانتهت بوعيٍ كامل بهويته الفنية.
هذا المستوى من الثقة والبراعة أمام العدسة لا يأتي صدفة بل هو ثمرة نضوج وتجربة جعلته يعرف متى يتكلم ومتى يكتفي بالصمت.
وربما لم يكن من الغريب بعدها أن نسمع عن خوضه لأول تجاربه التمثيلية عبر فيلم "إيجي بيست". فبابلو لم يعد مجرد رابر بل أصبح شخصية سينمائية جاهزة يعرف كيف يحكي دون كلام وكيف يحتل الإطار من دون ضجيج.






