خفة الظل التي صاحبت زياد الرحباني في كل ظهور له، سواء عبر أغنية أو حفل أو مسرحية أو لقاء تليفزيوني، هي السمة التي قربتنا من موسيقاه. استخدمها في بعض الأحيان كمطرقة نقد ذاتي تنزل على رؤوسنا بخفة، أو تقرّعنا وتسخر من الوضع الذي نعيش فيه. وفي الكثير من الأحيان تأخذ بصوتنا وتدفعه لنعبر عما نريد و ما نتمنى.
زياد يفكك دائمًا الصورة والحالة ببراعة، فهو يتملك الأدوات والإدراك الكافيين للتفاصيل، ما يجعلنا نقع في غرام تعبيراته. ويضفي على كل إصداراته طعمًا لبنانيًا، لأنه لبنان يتحرك على رجلين.
في هذه القائمة، وبناء على الذائقة الشخصية لكتابنا، نختار أكثر الأغاني قربًا وحميمية لنا من أعمال زياد، وتحديدًا الأعمال التي صنعها بعيدًا عن والدته السيدة فيروز. قد لا تكون الأشمل أو الأفضل، لكنها تذكرنا لماذا نحب زياد ولماذا نسمعه وسنسمعه دائمًا.
عايشة وحدا بلاك
في مواقف الرفض العاطفي نحتاج دائمًا لذلك الصديق المشاكس الساخر ليسكب الماء البارد على رؤوسنا كـ"تفويقة". أتذكر أول نسخة أداء حي سمعتها للأغنية؛ وزياد -مؤلف الأغنية وملحنها- يسأل صاحبه بمكر "بتحبها؟!" ثم يقول له ساخرًا "لكن هي … ما بتحبك". تفكك الأغنية حالة التمركز حول الذات التي يمر بها كل عاشق. فالحياة تمر، والمشاعر تتغير، والدنيا لا تتوقف.
اعتماد اللحن الأساسي على العود، والغناء الجماعي بالكورس، يعطي إحساس جلسة السمر الجماعية الليلية، ويضفي طابع المرح على الأغنية، ويحول مأساة الفراق إلى ملهاة.
ولَّعت كتير- مع سلمى مصفى
في سكتش غنائي آخر، يفكك زياد الوضع الإقتصادي المتردي لزوجين يعيشان بمنزل متهالك، لا تجد الزوجة فيه حلًا للتنفيس كبتها إلا الشكوى من كل تفصيلة مرهقة بالمنزل في رسالة موجهة لزوجها، متهمة إياه بدلال بأنه السبب في ذلك الوضع وأنه خدعها بطموحاته الضخمة لحياة مريحة لم يحقق منها شيء. مرة أخرى يحول المأساة إلى ملهاة بسلاسة ونعومة، مستعملًا في ذلك مزيجًا من الطبلة والجيتار الإلكتروني والعود والدرامز.
بما إنّو - مع جوزيف صقر
برغم التزامه فيها في الكتابة وأسلوب التلحين باللهجة الساخرة و الأسلوب التهكمي، تحمل "بما إنو" حالة غضب مبطن تجاه رافضي أي نقد اجتماعي ممن يرون كل الأوضاع إيجابية وجيدة. يخاطبهم بلغتهم بذكاء: إذا كانت الدنيا وردية لماذا لا يلدون أولادهم على الأرصفة النظيفة ويأكلون بيضة واحدة وتسد جوعهم. لدى زياد العديد من الأغاني ذات اللغة اللاذعة، لكن هذه تظل أيقونية بالنسبة لي.
بنص الجو - مع لطيفة
من أبرز تعاوناته مع لطيفة، قدما فيها سويًا المحب المتسرع في خطواته الذي لا يكف عن إرسال الإشارات المتناقضة، حيث يدخلنا زياد في حالة التسرع عن طريق إيقاع سريع ذكي مع جمل مقفاة متتابعة ومزيج لحني يجمع فيه بين البايس درامز والعود.
يا زمن الطائفية - مع جوزيف صقر
زياد في يا زمان الطائفية كان بالنسبة لي ملك المجاز والسخرية البناءة، حيث لخصت الأغنية متاعب الشعب اللبناني بالحرب الأهلية بشكل ساخر وسلس، معتمدة على أسلوب سرد مستمد من السرد الشعبي. الأغنية من مسرحية فيلم أمريكي طويل سنة 1980: "يا زمان الطائفية/ طائفية وطائفيك/ خلي إيدك ع الهوية/ وشد عليها قد ما فيك/ شوف الليرة ما أحلاها/ بتقطع من هون لهونيك".
معلومات مش أكيدة
https://youtu.be/0Wsymp_rvjA?si=j6yqELU-aFbIvIH0
من بين الأغاني التي أحبها كثيرًا لأنها تقدم الحب من زاوية مختلفة، بكلمات غير مألوفة، بعيدة عن النمط المعتاد للأغاني العاطفية. الأغنية هي ثمرة أول تعاون بين لطيفة وزياد، ضمن ألبوم«معلومات أكيدة» الذي صدر عام 2007، ويحمل قصة فريدة من نوعها. هذا الألبوم كان قد عُرض على السيدة فيروز للمرة الأولى عام 1986، لكنها كانت تفضل التأني والتفكير العميق قبل اتخاذ قراراتها الفنية، واعتادت أحيانًا أن تختار أعمالها بعد مرور خمس أو ست سنوات. أما ألبوم «معلومات أكيدة» فقد بقي 21 عامًا دون أن يرى النور، إلى أن قرر زياد الرحباني إعادة إحيائه من خلال تعاونه مع لطيفة.
روح خبر
كيف تختار "الأجمل" لرجل "يُصيبها" في كل مرة؟
كل عمل يقدّمه يحمل بصمة جديدة، ومع ذلك يظل مألوفًا، ويشبه صاحبه في نفوره من التصنيف، وفي سخريته من السؤال أصلًا.
لكنني عدتُ إلى "روح خبّر".ليس لأنها "الأجمل"، بل لأنها عملٌ مركّب كمعظم أعماله، تلتقي فيه اللغة اليومية بالتأمل الوجودي، على نغمة "أورينتال جاز" تنساب بهدوء، وتقلّبك من الداخل.
ثم يأتي صوته. زياد لا يغني… بل يفكّر بصوت عالٍ. ترتا، ترتا، خربتا، ترتا… تلك الدندنة التي نعرفها من الجاز الغربي، بـ "السكاتينغ"، تتسلّل هنا بروح زياد، ساخرة وعميقة في آن. وتصاحبه جوقة، نلمح فيها صوت سامي حوّاط، الذي لا يمانع التراجع إلى الظل حين يتطلب الأمر.
أسمع الأغنية الآن، وأفكر: هل من أغنية تُجيد التعبير عن الإحباط العاطفي؟ عن لحظة الاصطدام بالحائط المسدود.. والذي هو الذات في كثير من الأحيان، وكما أشار زياد مرارًا، كما تفعل هذه الأغنية؟
بلا ولا شي- مع رشا رزق
"بلا ولا شي"، قصة بسيطة عن شخص يحب لكنه لا يملك؛ "بحبك بلا ولا شي/ ولا في بها الحب مصاري/ ولا ممكن فى ليرات/ ولا ممكن فى أراضي ولا فى مجوهرات". لكن وراء القصة المباشرة حديث أعمق عن الحياة المادية الاستهلاكية، التي تترك الأهم لأجل التافه: "بلا كل أنواع تيابك بلا كل شي فيه تزييف/ بلا كل أصحابك/ صحابك التقلا والمهضومين/ تعي نقعد بالفيّ/ مش لحدا هالفيّ".
شو هالأيام
بمجرد أن وصلني خبر رحيل زياد رحباني، قفز إلى ذهني صوته القوي وهو يغني "شو هالأيام" كانت هذه الأغنية مدخلي الأول إلى عالم زياد، اكتشفتها في سنوات مراهقتي، ففتحت لي بابًا إلى صوته وإلى عالمه الذي لا يشبه أحدًا. تحمل هذه الأغنية شيئا من جوهر هويته الفنية والشخصية ذلك المزيج الفريد من الحس الإنساني واللمسة السياسية الذكية. كان زياد، كما عهدناه دوما صوتا حرًا لا يساوم، في مواجهة كل ما يخالف قناعاته.