لربما يبدو اليوم خيار بعض الفنانين بتنويع لهجات أدائهم في الأغاني التي يقدمونها خيارًا بديهيًا، وقد أصبحت وسيلة للوصول لجمهور أوسع، وبرهانًا على قدرة الفنان على التنويع بالأداء. لكن الأمر بدأ في الماضي مع أشخاص بعينهم، أقدموا على خطوات تجديدية جريئة لم يسبقهم إليها كثيرون، وأصالة كانت في مقدمتهم.
طوال حقبة الطرب والموسيقى العربية التقليدية، التزم الفنان بلهجته الأم، لمحدودية التعاون والتبادل بين المشاهد الموسيقية المختلفة في بداية ومنتصف القرن الماضي من جهة، ولارتباط اللهجة ارتباطًا وثيقًا بالألوان الموسيقية المحلية من جهة أخرى، فإن أراد الفنان تغير لهجته كان عليه تغيير اللون الذي يقدمه ككل، والعكس صحيح. فالفنانون غير المصريين ممن رغبوا بتقديم الطرب بعد رحيل رموزه الأبرز، أم كلثوم وعبدالحليم، اضطروا للانتقال إلى مصر منذ انطلاقة مسيرتهم والالتزام بالغناء باللهجة المصرية لعقود، مثل وردة الجزائرية وسميرة سعيد. أما العكس فحصل مع فيروز، التي بنت أسطورتها في الأغنية اللبنانية مع ألوان التراث والأغاني الجبلية والقصيدة وحتى الجاز، وحين رغبت بالغناء بالمصرية أدت اللون الطربي من ألحان محمد عبد الوهاب وسيد دوريش.
في حالة أصالة، صنعت النجمة نموذجها الخاص في تجربة اللهجات. صعد نجمها في الشام بدايةً، كالإبنة الموهوبة للموسيقار مصطفى نصري. تتلمذت على يده، وكان من رواد الأغنية السورية، وصاحب مشروع محلي أصيل، فغنت من ألحانه أغاني سورية. وما لا يدركه كثيرون هون ندرة أغاني اللهجة السورية منذ الثمانينات وحتى اليوم، حتى في أرشيف الفنانين السوريين، لتوجه الغالبية للهجة اللبنانية. لذا، باتت أغانيها السورية جواهر نادرة رصعت مسيرتها قبل انتقالها لمراحل تالية.
تضمنت هذه المرحلة مصر بالطبع - كما حال معظم فناني الثمانينيات- وأثبتت جدارتها بعد رحيل والدها بغناء ألحان بليغ حمدي وسيد مكاوي، إلى جانب أغاني مصرية ذات طابع أكثر عصرية. لكن النجاحات المصرية لم تغرر بأصالة، وبحثت مباشرةً عن المحطة التالية، فتوجهت للخليج.
خيار دخول سوق الخليج منذ بداية التسعينيات، في حقبة كانت الأصوات النسائية الخليجية نادرة، كان خيارًا جريئًا من أصالة، غير ملامح مسيرتها لأكثر من ثلاثين عامًا تاليًا، ومهد الطريق للعديد من الفنانات اللواتي تبعنها إلى هذه الخطوة. غنت عبر هذه الرحلة ألحان العشرات من ملحني الخليج، مثل صادق الشاعر وعبد الرب إدريس ويعقوب الخبيزي وعبادي الجوهر، ورسخت حضورها بقوة حتى صارت من أبرز نجمات الأغنية الخليجية.
وتتداخل مع إصداراتها الخليجية كذلك العديد من الأغاني باللهجة العراقية، التي وإن كان وقعها على الأذن متشابهًا مع الخليجية لدى المستمع العادي، إلى أن للأغنية العراقية خصائص متفردة على صعيد النطق والإحساس وأسلوب التوزيع، تجعلها تحديًا مختلفًا للفنان.
لم تخض أصالة هذه المحطات على مراحل، بل أبقت على التنوع فيما تقدمه، إلى جانب كثافتها في الإنتاج الفني التي سمحت لها في أن تصدر ألبومات كاملة متنوعة اللهجات في فترات متقاربة. وأبقت على أسلوبها هذا حتى اليوم. فخلال العامين الماضيين فقط، عملت أصالة على 3 ألبومات، جاء أولها "لحقت نفسي" متنوع اللهجات، تبعه الألبوم الخليجي "ثمًّ أنا"، وتستعد الآن لإطلاق ألبومها الأحدث "ضريبة البعد" الذي سيضم 13 أغنية مصرية جديدة. وعبر أكثر من 30 ألبومًا كاملًا منذ التسعينيات وحتى اليوم، عرفت أصالة، بالكلمة وبالإحساس قبل كل شيء، كيف تبقى دومًا قريبةً من قلوب جمهورها، الأمر الذي يجعلها اليوم نجمة عربية، لا تختصر رحلتها باتجاه واحد أو جمهور محدود.