عند العودة إلى أول إصدار منشور على قناة فلان في يوتيوب عام 2013 بعنوان Freestyle، نشعر أن بدايته سبقت هذا التاريخ بسنوات. فالمهارة العالية في الإلقاء، والبنية المعقّدة للبارات، والسيطرة الكاملة على الإيقاع بين السرعة والهدوء، لا يمكن أن تكون نتاج تجربة أولى. كما أن رقم المشاهدات، الذي تجاوز مليوني مشاهدة في تلك الفترة المبكرة، يوحي بوجود جمهور سابق تعرف عليه قبل هذا الإصدار. وبالفعل.. مع التعمّق في البحث، يتبين أن مسيرته الفعلية تعود إلى عام 2008، حيث بدأ بتجارب غنائية مبكرة ولافتة.
بداية جماعية ملفتة تبعتها "ضربة" فردية "صحيحة"
بدأ مهدي كولوجلي، المعروف فنيًا باسم فلان، مسيرته ضمن مجموعة Big M بين عامي 2008 و2009، حيث قدّم معهم أعمالًا لاقت صدى بين شباب الأحياء الشعبية مثل دارنا في الحومة وتشوفني في البلاصة. بعد فترة قصيرة قرر الابتعاد عن الموسيقى لأسباب شخصية في أواخر 2009، قبل أن يعود لاحقًا ضمن فرقة بوروباز كرو عام 2012، ثم ينفصل عنها في العام التالي ليبدأ مسيرته الفردية بإطلاق ألبومه الأول "ضربة صحيحة".
جاء "ضربة صحيحة" كصرخة غضب صريحة، خالية من التجميل أو التورية. عبّر فلان، ابن حيّ بوروبا الشعبي، عن واقعه القاسي ورفضه للظروف التي نشأ فيها، موجّهًا نقده إلى الجيل القديم الذي اعتبره سببًا في تردي الأوضاع الاجتماعية.
امتازت باراته بحِكمٍ ومقولات شعبية مستوحاة من لغة الشارع، بينما حملت موسيقاه تأثيرات من الراي الشعبي، خصوصًا في تراك "عايش برّاني" الذي شاركه فيه الشاب قديرو المكسيكي. كما دمج بين اللحن الشعبي وإيقاعات الأولد سكول، ليصوغ هوية موسيقية خاصة به في تراكات مثل "أبرم وعوض"، و"عايش براني"، و"لازم تفيق".
بعد عامين، واصل فلان خطه الفني بإصدار ألبوم Al Cat Rap، الذي حافظ على الروح الغاضبة نفسها، مع توسيع نطاق الموضوعات نحو قضايا الهجرة غير الشرعية ومعاناة المهاجرين الجزائريين في أوروبا. في تراك 7agg’ Art، استعاد مقاطع من أغاني الشاب خالد كوسيلة رمزية للتشبث بالهوية وسط الاغتراب، ليؤكد أن موسيقاه ليست فقط وسيلة للتعبير، بل مساحة لحفظ الذاكرة والانتماء.
ترسيخ فني وبصري لهوية بلا "فلتر"
أدرك فلان في وقت مبكر أن الجرأة وحدها لا تصنع هوية فنية متماسكة. فكم من فنانٍ بدأ بقوة ثم اختفى في زحام الموجة الأولى من “الأولد سكول”. لذلك جاء بعد ألبومه Alcat Rap بضربة جديدة أكثر نضجًا ووضوحًا عبر تراك “مالكولم إكس”. أما في تراك “Bang Bang”، فيعالج فلان فكرة الذكورة الصلبة من زاوية مختلفة؛ فالعنف هنا ليس تمجيدًا، بل هو نقد خفي لمنظومة تربي الرجال على الكبت والتنافس الوحشي. يظهر في سلسلة من معارك الشوارع، يفوز في النهاية، لكنه يسلّم الجائزة لخصمه.. في إشارة رمزية لرغبته في التحرر من دوامة البقاء للأقوى.
دوامة المغترب بين الماضي والحاضر
بين عامَي 2015 و2018، انشغل فلان بإصداراتٍ فردية شكّلت ملامح مرحلته الأعمق، وصولًا إلى ألبوم “15 Jours” عام 2018. في تلك المرحلة، يطغى الحنين والأسى على أعماله، إذ يعيد فتح ملفات ماضيه في تراكاته “Freestyle الحومة”، و“Cabineti”، و“Ntiya”؛ حيث يراجع طفولته وقراراته، باحثًا عن معنى أو دافعٍ يبرر استمراره في رحلة الكفاح.
أما في “ناسي” (المستوحى من فيلم كريم كاجو Oxygène)، فيقدّم صورة المغترب الهش نفسيًا، الذي يُركّز على البقاء والعمل إلى درجة إغفال إنسانيته. يعيش بطلاً هشًّا، ينهار حين يخسر دعم حبيبته أو محيطه الضيق من المهاجرين مثله.
في هذه المرحلة، يتخلى فلان عن نبرة التبجّح، ليكتب بصدق دون أن يتدخّل “الأنا” في السرد. موسيقيًا، يمزج التراب والدريل بعناصر من الموسيقى الإلكترونية الراقصة، والأفروبيت، والبوب اللاتيني، في تطعيمات أنيقة تعبّر عن هويته المزدوجة بين الشرق والغرب.
تتر مسلسل "ليام": الوصول للانتشار التجاري
شكّل تتر مسلسل “ليام” (رمضان 2021) نقطة تحوّل حقيقية في مسيرة فلان. الأغنية لاقت انتشارًا واسعًا داخل الجزائر وخارجها، وعرّفته إلى جمهورٍ أوسع من مستمعي الراب. بفضل هذا النجاح، ظهر في برنامج Planète Rap على إذاعة Skyrock إلى جانب سولكينغ، ليتحول لواحد من الأسماء الفاعلة بمشهد الهيب هوب الجزائري من حيث التأثير والانتشار.
استثمر فلان هذا الزخم سريعًا بإصدار ألبوم “Flou” الذي ضم 17 تراكًا متنوّعًا بين الاجتماعي والعاطفي والتبجّحي. في هذا العمل، أطلق العنان لمهاراته الكتابية: بانشلاينات ذكية، قوافٍ لامعة، ومواضيع غير مطروقة، مستعيدًا مكانته كأحد أقوى كتّاب الفريستايل في المنطقة.
لاحقًا، أظهر نضجًا أكبر في ألبوم “Moujda” (2022) وتراكاته مثل “Marseille” و“Ce Dépend”، التي عالجت قضايا الهوية والمنفى بنبرة فلسفية تأملية. في المقابل، احتفظ بخطّه الحيوي في الأغاني العاطفية الراقصة مثل “La Brune” و“طب طب” التي تمزج البوب الإلكتروني بالعواطف الرقيقة.
السلاسل الذاتية وهوس التجريب
إلى جانب سلسلتي آمنت وولد بوروبة، يمتلك فلان سلسلة ثالثة من أقدم مشاريعه وهي “One Shot"، التي بدأها عام 2015 وبلغت نسختها العاشرة عام 2021. لا تمثل هذه السلاسل مجرد سردٍ ذاتي، بل فضاءً للتجريب والارتجال سواء موسيقيًا أو على صعيد الكلماتٍ.
وقد تأثرت إصداراته الأخيرة بتلك السلاسل، سواء ألبومه القصير الصادر بأواخر العام الماضي "2N"، أو آخر إصدارين له؛ "فلاش" و"Cent Victories"، حيث اقتبس الإصدارين الأخيرين من موسيقى الهاوس والجيرسي في تطعيمات خفيفة مع التراب، بينما اتسم الألبوم ككل بالبارات العشوائية دون سردية أو ترتيب للسياق، وتجريب مكثف للمؤثرات الصوتية الإلكترونية.
عند التأمل بكل هذه التجارب عبر أكثر من عقد، نشعر أن الرابر الجزائري الشاب يكتب أحداث حياته وكأنه يدوّن في يومياته سطرًا بسطر عبر موسيقاه، مستعينًا بالهيب هوب كوسيلة للاعتراف والتمرّد في آنٍ واحد. رحلة تنقله المتواصلة بين الجزائر وفرنسا، امتلأت بالتجارب، والتحولات، والألبومات التي جعلت منه أحد أبرز الأصوات المؤثرة في مشهد الراب في شمال أفريقيا اليوم.