"لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي/ لأجلك يا بهية المساكن/ يا زهرة المدائن/ يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي/ عيوننا إليكِ ترحل كل يوم/ تدور في أروقة المعابد/ تعانق الكنائس القديمة/ وتمسح الحزن عن المساجد". لاتزال كلمات أغنية "زهرة المدائن" تحتفظ بذات الأثر بعد أطثر من خمسين عامًا على صدورها، وتزداد إلهامًا كلما ازدادت وحشية المشاهد وقسوتها.
هناك خلاف حول هوية كاتب كلمات الأغنية، فيشاع في بعض المصادر أن الشاعر اللبناني سعيد عقل هو من كتبها، بينما تُؤكد مراجع أخرى إلى أن الأخوين الرحباني كتبا كلمات الأغنية ولحناها. ارتبط اسم “زهرة المدائن” بمدينة القدس بعد أن لقّبتها فيروز بذلك في الأغنية، لينضم إلى العديد من الأسماء التي عرفتها المدينة عبر التاريخ، إذ كانت تسمّى في الماضي “يبوس“.
غنت فيروز الأغنية بعد احتلال القدس الشرقية عقب نكسة 5 يونيو/ تموز 1967، مما جعل الأغنية تجليًا فنياً صادقًا لروح القومية العربية والعاطفة السائدة في الشارع العربي في تلك المرحلة، بشقيها الوطني والديني؛ الذي حرص على جمع المسلمين والمسيحيين العرب تحت راية واحدة. استخدم الأخوان رحباني في الأغنية دقات أجراس الكنائس وأصوات أذان الصلاة في تجانس موسيقي مع الكلمات التي تُشير أيضًا إلى ليلة الإسراء والمعراج، لتُعبر الأغنية عن الوحدة والتآخي الديني. وقد جاءت جملة "يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي" لتعبّر فيها عن خصوصية المدينة المقدسة لدى جميع سكان المنطقة، دون أن تنسبها لدين أو عرق، فهي مدينة الصلاة والقداسة للجميع دون استثناء.
ومن الأشياء التي تُميز الأغنية عن باقي الأغاني الوطنية التي صدرت في تلك الفترة، أنها تستطيع أن تختزل كل المُشاعر التي شعر بها العرب حينها، فهي تبدأ بالرثائية والصلاة، قبل أن تتصاعد في الدقيقة الخامسة من الأغنية لتُعبر عن الغضب الشعبي. تحل صافرات الإنذار مكان أجراس الكنائس ويشارك الكورال في أداء تبادلي مع صوت فيروز، ويتصاعد اللحن بقوة حتى نهايته، مما يضفي على الأغنية طابعاً جماهيرياً وحماسياً: "الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان/ الغضب الساطع آتٍ سأمر على الأحزان/ من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ/ وكوجه الله الغامر آتٍ آتٍ آتٍ". يُساهم المقطع الأخير بزيادة جرعة العاطفة وتحويل مسارها، لتُصبح الأغنية أيضًا رمزاً للصمود والأمل، وما زالت تتردد حتى اليوم كتحية للقدس وللقضية الفلسطينية.
من الجدير بالذكر أن الأغنية جاءت بعد فترة قصيرة من زيارة فيروز للقدس؛ التي وثقتها بأغنية "مريت بالشوارع شوارع القدس العتيقة"، لتحكي عن زيارتها للقدس العتيقة عام 1964، حيث التقت فيروز بامرأة مقدسية تحدثت معها عن معاناة سكان المدينة تحت الاحتلال. تأثرت فيروز كثيرًا حينها بقصة المرأة وبكت، ما دفع الأخيرة إلى إهدائها مزهرية من الورود لتخفف عنها؛ لتبقى تلك الذاكرة في وجدان فيروز وتنقلها عبر صوتها إلى الجمهور العربي.