* في عالمنا العربي وفرة من نجمات ونجوم البوب الذين شقوا طريقهم نحو النجاحات والانتشار الجماهيري وقد بدأوا مشوارهم منذ ثمانينيات القرن الماضي، وربما قبلها، وبقيوا حاضرين بقوة خلال أربعة عقود. نجوم أدركوا أن الموسيقى الطربية، على عظمتها، لم تعد معبرة عن الأجيال الجديدة، فسعوا، كل بطريقته، لتشكيل نسخهم الخاصة من البوب بمعناه الواسع، مستلهمين التطورات العالمية، ومضيفين إليها أحيانًا من التراث الموسيقي في بلدانهم.
في هذه السلسلة نحتفي بأسماء من مصر والخليج، ومن بلاد الشام والعراق والمغرب الكبير، ونسترجع مع القارئ مشاهد بارزة في مسيرتهم المهنية.
على الرغم من أن ألبوم رشيد طه الأول Barbès، في بداية التسعينيات، كان قد حمل تأثيرات الراي الواضحة، كان المكان الذي وقف فيه رشيد طه أكثر ثقلًا. كان فنانوا جيله قد اتجهوا إلى الراي الاحتفالي. أما هو، فقد اختار التجريب بروح الموسيقى الشعبية.
فإذا عدنا إلى الراي الذي ساد في ذلك الزمن، وجدناه متأثرا بروح الملاهي الليلية والأفراح الشعبية الجزائرية. ذلك الراي الذي صعد به فنانون مثل الشاب خالد والشاب مامي إلى العالمية في التسعينيات، والذي مزج بين التأثيرات المحلية والتقليدية والجنرات العالمية مثل البوب والفانك والهيب هوب، وتناول في أغلبه موضوعات الحب والتمرد، واعتمد على صوت الكيبورد والإيقاعات الإلكترونية، مع جمل لحنية عاطفية تميل إلى الرومانسية.
أما موسيقى رشيد طه، التي أصبحت تصنف -تبسيطًا- ضمن جنرا الراي، فكانت مختلفة، إذ وُلدت من موسيقى الشعبي الجزائري، ابنة أزقة الجزائر العاصمة وحاراتها، ومزجت بين أصالة الموسيقى الأندلسية، التي تأثرت بمقاماتها وتقاليدها الغنائية، مع صدق الهم اليومي. كانت تلك الموسيقى لسان الشعب وذاكرته الجمعية، إذ تغنت بقصص الحب والحرية والغربة والظلم والقيم الشعبية، بكلمات ذكية توارت خلفها انتقادات اجتماعية. واعتمدت على آلات مثل المندولين والعود والدف، وكانت تؤدَّى بصوت حزين متقن يحمل حكايا البسطاء. وكان من أبرز أعلامها الحاج محمد العنقة ودحمان الحراشي.
ومن هنا انطلق رشيد رافعا صوت الشعبي إلى العالم، عندما استعاد أغنية الحراشي "يالرايح" سنة 1997. أظهرت الأغنية قدرته على تطعيم الشعبي بموسيقى الروك دون أن يفقد جوهره. كانت النسخة الأصلية قد صدرت بصوت دحمان سنة 1973، وكان قد كتبها متوجها لمهاجري جيله: "يالرايح وين مسافر تروح تعيا وتولِّي/ شحال ندمو العباد الغافلين قبلك وقبلي".
لكن نسخة رشيد المطعمة بالروح تحولت إلى مانفيستو لجيل المهاجرين الجدد، بعد أن مزج فيها حنين الشعبي الأليم بقوة الجيتار الإلكتروني والصوت المشوش.
سنة 1998، رقص العالم كله على أنغام "يالرايح"، برغم كلماتها الحزينة، بعد أن ظهرت ضمن ألبومه "كارت بلانش"، ثم غناها، في العام نفسه، في حفل "الشموس الثلاثة" الأسطوري في قصر بيرسي بباريس، الذي جمعه مع الشاب خالد وفضيل.
التجريب بصوت البانك الشعبي
لم يكن فهم رشيد طه للشعبي سطحيًا، بل عرف أصول الشعر العامي وارتباطه العاطفي العميق بتاريخ الجزائر مع المنفى والخسارة والشوق. وهذا ما تجلى في ألبومه "ديوان" سنة 1997، الذي حمل استعادات شعبية ثقيلة مثل أغنية "يالمنفى" التي تحكي عن مأساة المقاومين الجزائرين الذين تم نفيهم في القرن التاسع عشر: "قولوا لامي ما تبكيش/ يالمنفي/ ولدك ربي ما يخليهش/ يالمنفي".
ما ميزه عن مطربي الشعبي التقليديين قدرته على إضافة طبقات من العدوانية والألم؛ خشونة كانت أقرب إلى البانك من أي شيء تقليدي. جاء أداؤه حادا ومتأثرا بالسوداوية المميزة للشعبي، والأثر المزلزل للروك في آن واحد.
ولد رشيد طه في الجزائر عام 1958، وانتقل في عمر العاشرة إلى فرنسا، حيث شبَّ في مدينة ليون. اشتغل نادلا ثم عاملا في مصنع قبل أن ينتقل إلى الموسيقى. مع بداية الثمانينيات أسس فرقة Carte de Séjour (بطاقة إقامة). احتضن مع الفرقة روح التمرد القادمة من جنرا البانك. تجلى هذا بوضوح في نسخته من الأغنية الفرنسية "Douce France" (فرنسا الحنونة)، عام 1986.
لم تغير الفرقة شيئا في كلمات الأغنية، لكن رشيد استطاع تحويلها من أغنية حنين لفرنسا إلى انتقاد لاذع للعنصرية، ونشيد سياسي لمجتمعات المهاجرين المهمشة في فرنسا. فعل ذلك بخشونة صوته، بالدرامز الذي يحاكي إيقاعا شرقيا، بالجيتار الذي يحاكي الآلات الوترية المغاربية مثل القمبري أو المندولين. وعلى الرغم من أن الفرقة لم تحقق نجاحا تجاريا كبيرا، صار الناس يتداولون اسمها كجزء من الحركة الفنية الفرنسية المعارضة. كما مهدت الطريق لأعمال رشيد طه المنفردة، خاصة في مزجه بين البانك والشعبي.
بين حكيم حمادوش وستيف هيلاج
واحدة من أهم الشراكات في مسيرة رشيد كانت تعاونه مع عازف الجيتار والمنتج البريطاني ستيف هيلاج. أنتج هيلاج أبرز ألبومات طه، وساعد في الهندسة الصوتية على دفع الشعبي، وانحاز إليه بوضوح في أغلب التسجيلات، خاصة في أغاني ألبوم "Made in Medina" (صنع في المدينة) عام 2000.
في هذا الألبوم، الذي يشير عنوانه إلى العودة إلى الجزائر العاصمة، أخذ رشيد منعطفا حادا نحو التجريب بصوت الشعبي، مغلفا الجذور بطبقات من الروك والإلكترونيك وحتى الفانك. في "برا برا" مثلا نسمع الشعبي واضحا من حيث الإيقاع والجمل اللحنية، لكنه مغمور في موجات من الجيتارات المشوهة والإيقاعات الإلكترونية الثقيلة.
لم يكن دور هيلاج تغريب الشعبي، بل مضاعفة قسوته وتوسيع طاقته، وإعطاءه بعدا عالميا، حيث أضاف طبقات من التأثيرات السايكيدلية وزاد من كثافة الإيقاع. لقد تحول الشعبي في هذا الألبوم من موسيقى محلية للطبقة العاملة إلى صوت عالمي متمرد.
أما الحفلات الحية، فكانت غالبا أجمل من النسخ المسجلة في الاستوديو، إذ ظهر فيها عدد من العازفين العالميين. غير أن العنصر الأهم فيها كان حمادوش على الماندولين، تلك الآلة التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بصوت الشعبي، والتي يعد حمادوش واحدا من أبرز من طوروا في صوتها.
الدارجة لغة التمرد
اختار رشيد في أغلب أغانيه الغناء بالدارجة التي يتحدث بها الجزائريون في المغترب. كانت لهجة حية هجينة، تشكلت في المنفى، ممزوجة بالعامية الفرنسية، وعامية أحياء الطبقة العاملة، والتقاليد الشفهية المغاربية، ما جعلها محملة بقدر كبير من التمرد.
بهذه اللغة، منح طه صوتا لجيل من الجزائريين ولدوا أو ترعرعوا في فرنسا، ولم يجدوا أنفسهم لا في البوب الفرنسي ولا في الموسيقى العربية الكلاسيكية. غنى كما يتحدثون ويفكرون ويشعرون، منتقلا بين العربية والفرنسية، ليطلق كلمات مليئة بالسخرية والألم والاحتجاج، مضيفا لها طبقة جديدة: غضب المهاجر الذي لا ينتمي إلى هنا ولا إلى هناك. يكفي أن نراه وهو يصرخ بالكلمات بدلا من أن يغنيها في أغنية "تانغو جزائري" في مهرجان ترانس ميوزيكال دي رين عام 2012.
لقد قدم رشيد طه خلال مسيرته واحدة من أجرأ عمليات التهجين الصوتي بين الشعبي والبانك والروك والموسيقى الإلكترونية. كما حول الغناء الشعبي من فن يغنَّى للمهاجرين إلى فن يغنيه المهاجرون؛ من فن يقدم الوطن كجنة عدن إلى فن يقدم الوطن كجرح مفتوح. وبرغم وفاته قبل نحو سبع سنوات، لا يزال تأثير رشيد طه حاضرا بقوة بين الفنانين المعاصرين في المشهد المغاربي ومجتمعاته المهاجرة، يدعوهم إلى تحدي التابوهات، والجرأة في استكشاف تعقيدات هوياتهم.