في تسجيل بعنوان "جمعية خالد القديم" على قناة "سيكيمي راديو" الساخرة على ساوندكلاود، يظهر صوت عابث في الخلفية يصرخ بوجه أحباء الراي الجديد: "فيف خالد القديم! فيف خالد القديم!" (يحيا خالد القديم). يطرح التسجيل -على ظرافته- فكرة شائعة حول المفاضلة بين شكلي راي يتوسطهما الشاب خالد، ويحيلنا في الوقت نفسه إلى التساؤل: كم من خالد "قديم" في هذه المعادلة؟ أهو خالد "ديري كي تبغي" ومرحلة ما قبل ألبوم "الكوتشي" واستوديوهات فرنسا؟ أم هو خالد "ديدي" والنجاحات التسعيناتية المبكرة؟ أم هو خالد "1 2 3 سولاي" التي دفعته خطوات أبعد في طريق العالمية؟ أم هو "الشاب" بكل بساطة قبل أن يتخلى فيما بعد عن لازمة التسمية التي التصقت بمغني الراي منذ أواخر الثمانينات؟
أيًّا كان خالد "القديم"، فقد استمر كحالةٍ إشكاليّة مظفّرة في المشهد الموسيقي العربي. لم يسبق لمغنّي راي أن توسّع وجرّب وجدّد واكتسح بهذا القدر. انتقل خالد بين منتجين عالميين وجرّب توليفات صوتية متعددة من الفانك والريجي إلى الجاز والبوب والروك. حقق نجاحات قوية، ونوَّع تعاوناته العالمية.
نشأ خالد في حي فقير في وهران. شغف منذ صغره بالموسيقى في بيئة شهدت انطلاقة الراي في حلّته البدويّة مع الشيوخ القدامى. أسّس فرقته الأولى "5 نجوم" وذاع اسمه كعازف أكورديون ومغنٍّ يؤدي في حفلات أصدقائه المقربين وفي أعراس وهران.
ذاع صيت خالد وأصدر اسطوانته الأولى "طريق الليسي" سنة 1974 التي حققت نجاحًا قويًّا. في ذلك الوقت، ثوَّر الكاسيت إنتاج الراي ليتفجّر المشهد معلنًا عن طفرة إنتاج غير مسبوقة من 17000 نسخة كاسيت سنة 1977 إلى 4 ملايين سنة 1983. وصار الراي هوسًا عالميًّا.
بقي الراي مغيّبًا من الإعلام الجزائري رغم الطفرة الهائلة لجرأة مواضيعه وثيماته التي خاطبت الشارع ولم تناسب وسائل البث التقليدية. انتظر خالد عشر سنوات ليحظى بمشاركة في مهرجان الراي في وهران الذي بثّه التلفزيون الجزائري سنة 1985 وسكّ خلاله تسميته الأيقونية ليصبح رسميا "الشاب خالد".
من جبال وهران إلى مارساي
سنة 1986 هاجر الشاب خالد إلى فرنسا للمشاركة في مهرجان بوبيني الذي قدّم الراي للجمهور الفرنسي بدعوة من المنتج مارتين ميسيوني. لعب الفرنسي دورًا في ألبوم "الكوتشي" فيما بعد. ضخّ خالد بحيويته وشخصيته الوهرانية حماسة هائلة في المهرجان معوّضًا عن فتور الافتتاح الذي كان باهتًا بحضور فرقة راينا راي.
تكلم خالد في وثائقي عن حياته عن المهرجان الذي شكّل لحظة فارقة في مسيرته وفي تطور الراي وانتشاره في الخارج. لم يصدّق الناس وقتها عمره الحقيقي، 27 سنة، واعتبروه كهلًا في منتصف الأربعينات. لم يسبق لأغلبهم أن شاهدوا أداءً بذلك التمكن ليافع قدم إليهم للتو من جنوب المتوسط. كان ذلك انتصارًا مبكّرًا.
بعد ذلك بسنة أصدر خالد ألبومه الأيقوني "الكوتشي" رفقة المنتج صافي بوتلّة. تظافرت الجهود لإصدار أول ألبوم راي موجّه للانتشار العالمي خارج الجزائر إيمانًا بقدرة خالد على إنجاح الأمر. ضخّ خالد دماءً جديدة باستقدام آلات غير تقليدية إلى صوت الراي. كسب الوهراني الرهان. استمر في اللعب في الكباريهات والعلب الليلية في فرنسا، وصقل نصوصه من وحي تلك العوالم وأسبغها بالحنين إلى موطنه وهران.
استوعب راي خالد في طريقه البوب والروك والريجي والفانك والراب والجاز وأنماطًا أخرى طعّم بها صوته الخاص. "لا معليش. نجرّب. التجريب مليح" (من مقابلة مع خالد على قناة النهار الجزائرية). لهذا لا يشيخ خالد، لأنه يغامر ويجرّب ويجدّد دمائه. انطلق خالد بعد ألبوم "الكوتشي" إلى مجد تسعيناتي مع "ديدي" و"كنزة" وغيرها من الألبومات والإصدارات التاريخية، ونال جوائز عديدة مثل الاسطوانة الذهبية سنة 92 والسيزار في 94. صدّر الوهراني روح التجريب في إصداراته اللاحقة وانفتح على موسيقات شديدة التنوع.
ما بعد "الشاب"
تربّع خالد على عرش الراي مع تتالي الإصدارات والنجاحات، لكنه تخلّى بعدها تدريجيًّا عن تسمية "الشاب"، وكأن الوقار الذي عتّقه مع تقدّم مسيرته قد رفعه عن تسمية الشاب التي ارتبطت بالبدايات. أصبح اسمه الفني اختصارًا "خالد"، وأظهر ميلًا أكثر إلى الانطلاق من موسيقات أخرى واستحضار بعض ملامح الراي، مع توجه صريح نحو البوب بملامح عالمية.
لم يتخلَّ خالد عن الراي، بل استوعبه وتشربه حتى أصبح جزءًا من صوته وأدائه؛ نكاد نسمع في صوته ارتعاشات الأكورديون. يطوّعه، يمطّطه، ويخرج منه طبقات وخامات متفاوتة، ثم يعيد تخريجها. ظلّ الراي حاضرًا في صوته وإن طغى التجريب والمزج.
في المسافة من "5 نجوم" إلى "ثلاث شموس"، من فرقته الأولى صغيرًا في وهران إلى التسجيل الحيّ التاريخي لحفله مع رشيد طه وفضيل (1 2 3 سولاي) سنة 1998، تُوّج خالد "ملكًا" للراي، وانتقل المزاج الشعبي من مقارنته مع حسني وبقية الأقطاب مثل مامي وعمرو ونصرو إلى مرتبة أخرى. أراد خالد أكثر من الراي واستمر في التجريب.
في تخلّيه عن كنية الشاب وشيئًا من صورة "خالد القديم"، لم يخسر نضارته وفتوّته، بل ازداد شبابًا وتجدّدًا. أصبح خالد عالميًّا أكثر وطيّعًا أكثر. نستحضر خالد اليوم بأغنية "سي لا في" مثلما نستحضره بأغنية "ديدي"، دون أن ننتبه كثيرًا إلى أن الفرق بين الأغنيتين يمتد إلى أكثر من 20 سنة.
نراه مع سولكينج في أغنية "ميراج" ضمن ألبوم الرابر "فروي دي ديمون"، ونسترجع مشهده مع الشاب مامي في فيلم "100% Arabica" (إنتاج 1997) أثناء المبارزة الصوتية بينهما في الارتجال وتحدي درجات الصوت. كما نراه في تسجيل قديم مع الشاب أنور وحنجرته الفريدة في أداء أغنية مدحية، ونتمعّن طويلًا في الفيديو الذي جمعه بفلّة عبابسية في برنامج "تراتاتا" سنة 1994 أثناء أدائهما لـ"طوالو جنحيك" لنرى لعبة النظرات بينهما. نشاهد كل ذلك ونتساءل: كيف مرّ خالد بين كل تلك الأجيال ولا زال حاضرًا بنفس النضارة إلى اليوم؟
قيمة خالد في أنه يتحوّل ويكسب تحوّلاته، يتحرك ويحرّك خطاه نحو وجهات مظفرة.
متى يهرم الفنان؟ عندما نحنّ إلى أسلوبه القديم ونضجر مما يقدّمه لنا اليوم. في حالة خالد، نحن نستمتع بما يقدمه لنا اليوم ونشتاق لأسلوبه القديم دون حنين يعطّل الاستمتاع بحضوره. قبض خالد على سر الشباب، ضاحكًا ومجددًا ووفيًّا لصوته. من المفارقة أن يسمّي خالد آخر ألبوماته "الشاب خالد" بكل بساطة. ضم الألبوم تعاونات عالمية وأصواتًا متنوعة واستعاد خلاله أول إصدار له "طريق الليسي"، وكأنه يستعيد ألق تسمية "الشاب" التي وسمت بداياته.
هذا هو خالد. يأبى أن يهرم، ويستمر ضاحكًا بنضارة الشباب وروحه الوهرانية الممتلئة بالحياة.
*مقال ضمن سلسلة "ملوك البوب في العالم العربي" التي تحتفي بأسماء من مصر والخليج، ومن بلاد الشام والعراق والمغرب الكبير، حافظوا على نشاطهم الفني طوال أربعة عقود، ونسترجع مع القارئ مشاهد بارزة في مسيرتهم المهنية.