في مسلسل "ابن النادي" بطولة الفنان الكوميدي أحمد فهمي، والذي يعرض حاليًا عبر منصة شاهد، قفزت الأغنية السودانية "الليلة بالليل" لـ شكر الله عز الدين لتظهر في الخلفية الموسيقية لأحد الحلقات، وتعود من جديد لتثير اهتمام مستخدمي منصة تيك توك.
من المفارقة أن الاستدلال على الحضور السوداني لأحد الشخصيات في مسلسل مصري جاء عبر أغنية تصدرت منصة "تيك توك" منذ سنوات قليلة فقط، مما يؤكد حالة العزلة التي عاشتها الأغنية السودانية لعدة عقود لأسباب اجتماعية وسياسية.
هذا لا ينفي أيضًا أن هذه السنوات شهدت صدور مئات الأغاني السودانية، ولم يعبر أي منها جنوب النيل ليصل إلى شماله في مصر، ومن ثم الإنتشار في بقية الدول العربية، لكن هذا الاستثناء حدث مع أغنية "الليلة بالليل" للمطرب السوداني شكر الله عز الدين.
نجاح متأخر لخمس سنوات!
أُطلق شكر الله عز الدين الأغنية عام 2015 تحت اسم "شارع النيل"، وحققت أصداءً حتى في مصر وخاصة في النوبة. ثم عادت للظهور كذلك في العام 2020 مع انتشار تطبيق تيك توك بشكل أوسع، حين استخدمت مؤثرة صومالية تُدعى أمل الأغنية في مقاطع مصوّرة تجمعها بزوجها على تيك توك، فاشتعل التفاعل وانتشر التحدي المصاحب لها كالنار في الهشيم. وسرعان ما لحقت بها ملايين المقاطع المقلدة من السودان ومصر وبلاد الشام، وأعاد مطربون سودانيون شباب غناءها في نسخ متعددة، لتتحول إلى ظاهرة موسيقية.
لم يتوقف النجاح عند حدود الفضاء الرقمي، فتسللت الأغنية إلى الأفراح الشعبية في أسوان جنوب مصر، فأصبحت جزءًا من هذه الحالة، إلى أن قدمتها الفنانة بلقيس في بعض الحفلات لتمنحها تأشيرة عبور جديدة نحو الخليج العربي.
لاشك أن منصات التواصل الاجتماعي منحت الأغنية هذه الدفعة الكبيرة، مما يؤكد إلى حد ما مبررات فناني السودان بأن افتقاد أغانيهم للدعاية والدعم الإعلامي هو السبب في بقائها حبيسة داخل حدود بلدهم. لكن الاكتفاء بهذا التبرير يبدو حُكمًا قاصرًا ومنقوصًا، فثمة شيء موسيقي وغنائي في هذه الأغنية ساهم في نجاحها، لتعيد لأذهان المستمع العربي نجاح أغاني مثل "المامبو السوداني" لسيد خليفة، و"كدة كدة ياتريلا" التي قدمها عبد الرازق فيكا في التسعينيات.
البهجة في إيقاعات الجنوب
تنبض الأغنية بروح الإيقاع الإفريقي المُبهج، وهو العمود الفقري لبناء الأغنية السودانية والنوبية، نحن أمام مجتمع يبتلع أكثر من 60 إيقاعًا مختلفًا كل منها ينتمي إلى قبيلة وثقافة يحددها إطار جغرافي.
تنطلق الأغنية بمقدمة تعتمد على التصفيقات الشعبية مُطعمة بكوردات جيتار خفيفة، ومن بعدها يدخل إيقاع "السيرة" المستمد من مقام السلم الخماسي ليبني الأغنية.
يأتي صولو الأورغ الرئيسي على امتداد الأغنية مستوحى من موسيقى "الزنق"، وهي تيار موسيقي سوداني انتشر عبر الأعراس الشعبية معتمدًا على إنتاج الإيقاعات التراثية بآلة الأورغ، فمنح الأغنية طابعًا مبهجًا وراقصًا.
لغة بسيطة ومشاهد من الحياة اليومية
كلمات الأغنية كتبها الشاعر أمير حمزة، ولا شك أنها العنصر الثاني الأبرز وراء نجاح الأغنية، حيث تُشكل صورة شعرية بسيطة تمس الشارع السوداني، وتلمس تفاصيل الحياة اليومية بين المحبين والأصدقاء.
يستهل الشاعر بقوله: "الليلة بالليل .. نمشي شارع النيل" في إشارة إلى النزهة المعتادة لعامة السودانيين على كورنيش النيل، ثم جاءت بقية الكوبليهات مغزولة بمفردات تشرح ما يدور في هذه النزهة من تفاصيل سودانية أصيلة مثل: "قهوة بمزاج الليلة .. انت السكر الليلة".. "نشرب الجَبَنة الليلة .. البخور تقيل الليلة ".. "نشرب الشيريا الليلة .. لا شيشة لا جراك الليلة". وتعمد الشاعر تكرار كلمة "الليلة" في نهاية كل شطر لفرض فكرة الترديد السماعي للحن في وصفة مضمونة النجاح عند صناعة أي هيت.
التأرجح بين العزلة والانفتاح
قدمت "الليلة بالليل" نموذجًا لكيفية نجاح الأغنية حين تنفتح على الجمهور العربي دون أن تفقد هويتها. عبَّرت عن ثقافتها بلهجة بيضاء مفهومة، ولم تغرق في الرمزية الفولكلورية التي حدت من انتشار الأغنية السودانية ودفعتها للعزلة.
ورغم أن المشهد الغنائي السوداني يشهد الآن محاولات لكسر هذه العزلة، مثل تجارب إيمان الشريف مع الرابر عصام ساتي في تراك "ميلينا"، وأعمال فنانين مثل ناصر عثمان وود الصديق وود الحمري، فإن الساحة لا تزال في انتظار طفرة موسيقية تضاهي ما قدمه الرواد قبل نصف قرن مثل عبد الكريم الكابلي، وشرحبيل أحمد، ومحمد الأمين، وسيد خليفة.
ربما أعاد تيك توك الحياة لأغنية سودانية ولكن يبقى السؤال الأهم: هل تكفي مصادفات المنصات الرقمية لنشر الأغنية السودانية؟ أم هي في حاجة إلى صيغة موسيقية أكثر انفتاحًا لتعبر "شارع النيل" وتصل شواطيء الخليج العربي والبحرين الأبيض والأحمر؟






