وُلد محمد منير عام 1954 في منشية النوبة بأسوان، بين ضفاف النيل وأصوات الدفوف النوبية، فحمل منذ طفولته ذاكرة موسيقية مشبعة بإيقاعات الجنوب وأغانيه. هذه الثقافة، التي تمتزج فيها الحكايات الشعبية بالحنين إلى أرض فقدها أهلها بعد التهجير، صارت البذرة التي أنبتت صوته الفريد ومساره الفني المختلف.
ومع بداياته الغنائية في أواخر السبعينيات، لم يتعامل منير مع الموسيقى النوبية كتراث جامد، بل سعى إلى إعادة تقديمها بروح جديدة؛ تارةً عبر "تعريب" الألحان النوبية، المعتمدة على السلم الخماسي، لتصل إلى جمهور أوسع، وتارةً أخرى بالأداء الخالص بلغتها الأصلية، محتفظًا بخصوصيتها وعمقها. هكذا، تحولت أغانيه إلى جسر يصل النوبة بباقي أنحاء مصر والعالم العربي، وجعلت منه سفيرًا موسيقيًا للثقافة النوبية عبر الأجيال.
مرحلة "التعريب"
بدأت محاولات محمد منير لتقديم أغاني نوبية مبكرًا في ألبوماته الأولى، لكنه اكتفى فيها بتقديم ألحان مستوحاة من التراث النوبي، بكلمات مصرية عامية، مثل "الليلة ياسمرا" و"اتكلمي" و"يامراكبي"، وجميعها من ألحان الموسيقار النوبي أحمد منيب الذي كان يرى أن حسابات سوق الكاسيت تفرض على منير الغناء بالعامية لحين اتساع قاعدته الجماهيرية بشكل يسمح بفرض ثقافته النوبية على المستمعين.
ففي ألبوم "شبابيك" (1981) قدم منير أغنية "الكون كله بيدور" المستنسخة من الأغنية النوبية الشهيرة "أسمر شيريتو" من ألحان حسين جاسر، والتي غناها عدد من مطربي النوبة، أبرزهم كرم مراد. وهي أغنية في الغزل الرقيق: "أسمر شيريتو/ وو ديسي بيناتي غو"، وتعني "يا سمراء يا أم الضفاير/ يا صاحبة الشال الأخضر". لكن عندما كُلف الشاعر الكبير عبد الرحيم منصور بتعريبها، اختار تحويلها إلى أغنية وجودية تناقش مفهوم الحياة: "الكون كله بيدور واحنا ويّاه بندور/ واليوم بحر نعديه للّي احنا بنحلم بيه".
عاد محمد منير وكرر التجربة في ألبوم "اتكلمي" (1983) مع أغنية "قمر رحيلي" من كلمات عبد الرحيم منصور أيضًا، على لحن صاغه أحمد منيب لأغنية نوبية عنوانها "إيليا وِلّا" (اليوم والأمس). أما في ألبوم "وسط الدايرة" فأعاد تقديم أغنية "ووه بابا" من ألحان الفنان النوبي صالح وَلْوَلِيه، وكتب كلماتها العربية الشاعر الراحل عصام عبد الله، وتقول: "أوه بابا هدّي هدّي / أوه بابا مش بيدّي / من النجمة ألقى الـمُنى مستنّي". وفي الألبوم نفسه قدم أغنية "صفصافة" المقتبسة من الأغنية النوبية "شربما فوجري" (دموعي تسيل) لحن وكلمات الفنان رمضان بوجو ابن قرية أبو سمبل، وكتب كلماتها العربية الشاعر عوض بدوي: "أنا قلبي صفصافة/ موصوفلك أوصافه/ لو تصفى لي عيونك/ يا صافية نتصافى".
واستمر نهج منير في تعريب الأغاني النوبية ليقدم في ألبوم "الطول واللون والحرية (1992) أغنية "سِحْر المغنى" مع المطربة أميرة، من كلمات عصام عبد الله على لحن الأغنية النوبية "إر شورتنَّا/ آي شورتنَّا" (أنت روحي/ وأنا روحك)، وهي أيضًا من تلحين أحمد منيب.
الغناء بالنوبية الخالصة
في عام 1990 رأى منير أن الوقت قد حان لمفاجأة الجمهور بأغنية نوبية خالصة، فقدم في ألبومه "يا اسكندرية" أغنية "كُدوده" التي كتبها ولحنها الفنان النوبي نور الدين توشكا، لتعلن عن بداية عصر جديد نقل فيه منير الغناء النوبي من حدود الجنوب إلى كافة ربوع مصر ومن ثم الوطن العربي. كانت أغنية تجمع بين الغزل والحنين، تقول كلماتها "كُدوده هوي وو كُدوده/ كُدوده وِركي اللاوندي" ومعناها "يا صغيرة يا صغيرة/ يا صغيرة يا عطر بلادنا".
اللون والفرح في أعراس النوبة
لم تكن "كدوده" أغنية تراثية، بل عمل كُتب ولُحّن في العصر الحديث، بعكس أغنية "الله لون يالون" التي تعد واحدة من أشهر أغاني الأفراح النوبية.
جاء منير بهذه الأغنية من سهرات الأعراس ليقدمها بتصور موسيقي جديد في ألبوم مجمَّع صدر تحت عنوان "لقاء النجوم 3" عام 1998. تتحدث كلماتها عن نجمة، كلما يقترب منها العاشق تختفي.
لم يكن منير أول الفنانين النوبيين الذين غنوها، فقد سبقه أحمد منيب، وعلي كوبان، وخضر العطار وجميعهم أسماء تحظى بشعبية كبيرة في المجتمع النوبي .
في العام التالي، وفي ألبوم "الفرحة" قدم منير أغنية أخرى باللغة النوبية هي "سِيَّه سِيَّه" من كلمات الشاعر أحمد المستشار، ولحن مصطفى الكياني، وتوزيع عمرو محمود. تقول كلماتها "سِيَّه سِيَّه وو سِيَّه/ إنجوبَلّا وو سِيَّه"، ومعناها "من هنا يا طيري من هنا/ تعالى بجانبي هنا". هذه المرة دفعته جرأته إلى مزج الإيقاع النوبي بمقاطع الراب الغربي، وصوَّرها فيديو كليب حقق انتشارًا كبيرًا وقتها.
في ألبوم "في عشق البنات" الصادر عام 2000 أصدر منير أغنية نوبية أخرى هي "واشري" (يا جميلة) من كلمات شرف درنوس، ولحن حمزة عبد الغفور. تقول في مطلعها "لا لا لا لا وو كُدود أَيْجا كِير نالِيه". وتعني "تعالى يا صغيري وزرني ولا تهرب مني". غنى معظم الأغنية باللغة النوبية، مع لازمة صغيرة من الكورس بالعربية يقول فيها "لا لا لا وألف لا/ عشق وميل وآه يا ليل هيّا دي الحياة".
دليل الصيادين أم حبيبة سمراء؟
ولعل الأغنية النوبية الأشهر في مسيرة منير هي "شمندورة" التي صدرت في ألبوم "أحمر شفايف" عام 2003. حكى منير في لقاء مع إسعاد يونس في برنامج "صاحبة السعادة" قصة هذه الأغنية ومعناها، فقال: "الشمندورة عوامة صغيرة قدام المراكب. زيّ الدليل. كانت بتوجّه مراكب الصيادين وهي بتمشي في المياه بالليل فيعرفوا منها علوّ المياه وأماكن الصخور. فشبَّهنا الحبيبة بالشمندورة وقعدنا نتغزّل في شعرها اللي زي ليل النيل، ووشها اللي زي نور القمر بالليل".
"الشمندورة" أيضًا كانت اسم أول رواية في الأدب النوبي، كتبها محمد خليل قاسم ونشرها عام 1968، ثم تحولت إلى مسلسل إذاعي، وغنى المطرب النوبي عبد الله باطا أغنية "الشمندورة" في تتر البداية لها. انتشرت الأغنية في أوساط النوبيين، إلى أن قرر منير تقديم أغنية جديدة بالاسم نفسه، وعلى الجملة اللحنية الأساسية، بكلمات نوبية من تأليف أحمد المستشار، بينما أكمل اللحن مجدي جعفر. يقول مطلع الأغنية الأصلية التي استخدمه محمد منير "إيّو شمندورة مِنجِنا/ بَحْرِن جاسيكو مِنجِنا" وترجمتها "آه يا شمندورة ثابتة/ في وسط النهر ثابتة". وكالعادة، أضاف منير مقاطع بالعربية، هذه المرة مقاربة لنفس الحالة الأصلية: "ع الشط استني رايحة فين/ أنا ليكي بغني غنوتين/ غنوة عن الآهة والحنين/ وغنوة لعينيكي يا حنين".
لم تكن شمندورة هي الأغنية النوبية الوحيدة في الألبوم، فقدم أيضًا "حنينة" من كلمات أحمد المستشار ولحن سليم شعراوي، ولكنه اكتفى بغنائها بالنوبية فقط دون مقاطع عربية. بدت الأغنية كرسالة عتاب من حبيب يصف لحبيبته معاناته في حبها، وكأنه مريض بعشقها. يقول مطلعها "أَوَر أوجريسكا شيربا فوجا/ أونا مانن المادنجوناني" ومعناها "ليل ونهار دموعي تسيل/ حتى ذبلت عيني من كثرة البكاء".
سفير النوبية إلى الأجيال الجديدة
رغم تقديم منير لأغاني نوبية خالصة إلا أنه لجأ من حين إلى آخر للمزج بين النوبية والعامية المصرية وهو ما فعله أيضًا في أغنية "نَيْجِري بيه" (ماذا تعرف عنا؟) التي صدرت في ألبوم "طعم البيوت" عام 2008. في الأغنية يكلم الفتاة التي تمر به وهو واقف مع رفاقه، فتنظر إليه نظرة عابرة ثم ترحل دون سلام. صوَّرَ منير الأغنية وسط الأطفال فمنح المشاهدين انطباعًا انها أغنية لطفلة وليست لحبيبة، فلم يكن غريبًا أن تصير من الأغاني الشهيرة على قوائم حفلات عيد الميلاد واستعراضات حفلات المدارس وكأن منير يمرر النوبية للأجيال الجديدة بنعومة فائقة.
حارس اللغة النوبية الأخير
قدم منير ثقافة الأرض التي ولد وترعرع وسط إيقاعاتها. تنقَّل بين أغانيها التي يدور معظمها حول تيمات الغزل والشوق والحنين لوطن غائب. غنى للغربة التي تسكن مشاعر أهله الذين فقدوا أراضيهم وابتعدوا عن ضفاف النيل، كأنه يخبر العالم بقصة ثقافة أصيلة يخشى اندثارها جيلًا بعد جيل. في حواره مع إسعاد يونس يقول: "أنا سني كبير، بس أنا من آخر جيل بيتكلم نوبي، عشان كده دايمًا بغني بالنوبي هنا في مصر وأوروبا عشان أحافظ على اللغة". ولا شك أن الأغاني العديدة التي غناها منير باللغة النوبية ساهمت بالحفاظ على تلك اللغة الأصيلة، ونشرها بين الأجيال الجديدة كرافد من روافد الثقافة المصرية.