بمجرد أن نسمع بضعة أغاني فقط من ألبوم حمزة نمرة الجديد، نستوعب مباشرةً كمية الجهد والتأني الموضوعة في تنفيذ التوزيعات الموسيقية والإنتاج الموسيقي لكل عمل. الأمر الذي يشي بثقافة موسيقية عالية، وفهم عميق لدى صاحب هذا المشروع لما يود تقديمه من موسيقى.
والحقيقة هي أن حمزة نمرة حرص دومًا منذ بداياته في عالم الموسيقى، أن يصنع ما يشبهه هو شخصيًا ويعبر عنه، سواء في المواضيع المطروحة أو في روح الموسيقى. وقد نجح بذلك طوال سنوات في جذب شرائح واسعة من الجمهور التي كانت تبحث عما يقدمه من "موسيقى آمنة"، بعيدة عن البوب التقليدي الذي يدرج على الساحة، وعن موسيقى الشارع الشعبية، وحتى عن الصوت التجديدي كليًا في جنرات أخرى مثل الهيب هوب.
وقد نجحت خلطته الخاصة حتى الآن، وقد أصبح الفنان المفضل لدى ملايين المصريين الذين يحفظون أغانيه. لكن ذلك لم يسهل مهمته إطلاقًا، فمع كل مشروع كان عليه أن يفكر مليًا: كيف يتابع في تقديم ما يحبه الناس دون أن يقع في فخ التكرار؟ وما مساحة التجريب والتجديد التي يمكنه أن يختبرها دون يخرج على جمهوره بصوت غير مألوف؟
في هذا الألبوم الجديد، نجد أغان تجيب بوضوح كبير على كلا هذين السؤالين، فبعضها يشبه إلى حد كبير حمزة نمرة إلذي أحببناه عبر السنوات، فيما يسهل في أغان أخرى لمس محاولته لاختبار مساحات جديدة. ولنعرف أي هذه المحاولات أصاب وأيها خاب، نستعرض معكم سريعًا في هذه القائمة الـ 13 أغنية التي ضمها الألبوم بعد اكتمال صدوره، ونرتبها من الأضعف للأقوى، بعد عدة استماعات أولية:
كايرو
التوزيعات التي يقدمها حمزة هنا مميزة وجريئة للغاية، ومختلفة عن المعتاد منه حين تسيطر التوزيعات الأكوستيك. وضع التوزيعات أندريه مينا الذي اشترك مع حمزة في وضع اللحن كذلك، ليقدما أغنية فيوجن تجمع الإيقاعات الإلكترونية والزخرفة الشرقية. لكن اللازمة تفسد المزاج العام للأغنية، وتبدو مقحمة وهو ينادي ويتساءل: "كايروووو.. حد هنا من كايرو؟/ مش فارق فين من كايرو" وكأنها insert أضيفت على الأغنية بعد انتهائها وليس لازمة تربط المقاطع ببعضها. الأغنية عمومًا تشعرنا وكأنها صنعت خصيصًا لإثارة مشاعر المغتربين الوحيدين الذين يبحثون في بلاد بعيدة عن أبناء بلدهم، لعلها تكسبهم في حفل خارج حدود الوطن.
قرار شخصي رقم 1
لربما كانت من الأغاني الأقل جاذبية في الألبوم، فافتتاحها بلغة خطابية مباشرة، وحشوها بالعبارات الفلسفية حول طبيعة الحياة والوجود، يجعلها تبدو ثقيلة وغير قابلة للاستهلاك كأغنية نرغب بالاستماع إليها مرة تلو الأخرى وتكرارها. لكن عنوانها وفكرتها، كأغنية تعلن عن قرار بتحول، يبدو انعكاسًا لمحتوى الألبوم، يجعلها قد تبدو أغنية مناسبة فعلًا لتصدّر الألبوم، وأن يحمل الألبوم اسمها. إلا أنها تبقى من أضعف أغاني الألبوم.
بتستخبى
أغنية تقترب من المزاج العام للأغنية الشعبية في موسيقاها وتوزيعاتها، وفي أسلوب كتابة كلماتها على وجه الخصوص، إذ تنضم لثيمات العتب على قليلي الأصل والغدارين. أغنية متكاملة ولابد، ونشعر مباشرة أنها تصلح لتكون تتر لعمل درامي ملحمي. لكن المأخذ الوحيد عليها هو أننا نشعر حين نسمعها وكأن صوت حمزة نمرة وأسلوب أدائه كان أكثر تهذيبًا ولطفًا من أن يؤدي هذا النوع من المواضيع. فصوته يفتقد الحدة ونبرة الأداء الانفعالي التي نسمعها لدى المغنيين الشعبين وهم يؤدون كلمات من نوع: "ولاد الناس الشبعانين معروفين / والمدعين المحدثين مفقوسين/ مهما حاولوا ياخدوا لقطة مهروشين / مهما حاولوا يداروا برضه مكشوفين".
عزيز عيني
أغنية عاطفية جذّابة، تولد مباشرةً شعورًا أننا نود العودة والاستماع إليها مرارًا. كتب كلماتها خالد عصام بحساسية عالية، وانتقى مفردات غير تقليدية، وصنع لها حمزة لحنًا وتوزيعات -بالاشتراك مع أندريه مينا- في المساحة الأكوستيك التي يبرع بتقديمها، لتكون بين أغاني البالاد المميزة في الألبوم.
اتخمينا
"اتخمينا" تمثل واحدة من أكثر محاولات حمزة نمرة جرأة في الألبوم، بخروجه عن أجوائه الموسيقية المعتادة نحو مزيج إلكترو–شعبي يدمج الإيقاعات الإلكترونية الثقيلة بروح الأغاني الشعبية. تكمن جمالية الأغنية بالاعتماد على لغة الشارع، ورسم ملامح فرح شعبي غير مكتمل للتعبير عن حالة حزن، وباختلاط الإيقاعات الشعبية الحماسية بكلمات الأغنية وأفكارها السوداوية؛ التي لا تبدو غريبة تمامًا عن أغاني حمزة نمرة. لكن أداء حمزة نمرة لا يبدو متوافقًا مع باقي عناصر الأغنية، وكأن هناك حاجزًا يعيقه من الانخراط بهذه التجربة الموسيقية بشكل كامل، تمامًا كما في أغنية "بتستخبى". علمًا أن عمرو الخضري نفذ توزيعات كلتا الأغنيتين بحرفة عالية، ونجح في منحهما جاذبية إضافية.
كده الأيام
"كده الأيام" أغنية تأملية، يلتقط فيها حمزة نمرة إيقاع الحياة بتناقضاته الحادة؛ بين العهود التي نقطعها، وقرارات التراجع التي تليها بلا مقدمات، بين الأيام التي "تعلم في القلوب" وتلك التي تمضي "والسلام". كتبت كلماتها الشاعرة المصرية كوثر مصطفى التي سبق وكتبت للكينغ محمد منير أغاني أيفونية مثل "علي صوتك" و"سو يا سو"، ووصف حمزة نمرة التعاون معها في هذه الأغنية بأنه "حلم وتحقق".
الأغنية تعكس تجربة إنسانية شائعة: شعور الإرهاق من دوران الأيام في حلقات متكررة من الفرح والخيانة، القرب والخذلان. وتُثقل الأغنية بعض العبارات الفلسفية والأفكار القاتمة، ولكن اللحن والتوزيع الموسيقي يعيدان التوازن بخفتهما، وبالاعتماد على نغمة إلكترو تحاكي المزمار الصعيدي، تحوّل الأغنية إلى ما يٌشبه الأمثال والحكم الشعبية الشائعة.
وافتكر
إحدى الجواهر المخبوءة ضمن الألبوم. تبدو في البداية شديدة البساطة وقد لا تلتقطها الأذن مباشرةً، لكن التناسب بين الكلمات والتوزيعات فيها بديع. إحساس عام فيها يعيدنا لستايل أغاني الإندي العربي التي قدمتها الفرق المستقلة في فترة صعودها، مثل أغاني مسار إجباري والمربع ويوما وعمدان النور، مع الشعور السوداوي الذي يسيطر عليها، وتتخلله إيقاعات إلكترونية منتظمة توحد الحالة الشعورية على امتداد اللحن.
شيل الشيلة
أغنية تحمل رسالة واضحة، يوجهها حمزة نمرة لمن يحسدونه، للذين ينظرون إلى حياته من الخارج ولا يرون فيها سوى النقاط المضيئة. يُشير أن بحياته أيضًا الكثر من الهموم والأحمال الصعبة، وأنهم إذا ما أرادوا أن يعيشوا مكانه، يجب ألا ينتقوا اللحظات التي يريدونها، بل أن "يشيلوا الشيلة"، ويأخذوا الحمل كاملًا، بالإيجابيات والسلبيات.
يُغالي حمزة نمرة بإدعائه، أن لا أحد سيرغب حينها بأن يكون مكانه؛ لكن ذلك لا ينتقص من فكرة الأغنية، التي يتم ترجمتها موسيقيًا بالاعتماد على شجن الوتريات، الذي يقوده عزف حمزة المنفرد على آلة العود.
كله على الله
هي أغنية فلسفية الطابع، لكنها مكتوبة بلغة بسيطة تمزج بين حكمة الحياة اليومية وروح التقبل. يقدّم حمزة نمرة كشخص يعيش بخفة، لا يحمل أثقال الماضي ولا يفرط في القلق على المستقبل، بل يمضي "راضي بكله الآه والآه". الفكرة هنا ليست اللامبالاة بقدر ما هي تسليم واعٍ بأن السيطرة وهم، وأن المرء يؤدي دوره في الحياة ثم يترك الباقي للقدر. وما يميز الأغنية حقًا هو الجملة الموسيقية الكيتشي المستخدمة في اللازمة، التي تكاد تكون الأجمل في الألبوم ككل.
يا سهرانين
الأغنية التي تخاطب كل من تبقيه أحزانه سهرانًا في الليالي، جاءت مغلفة بمقدار كبير من الشجن. ولربما كان لمشاركة عازفين أتراك في تنفيذ الوتريات والإيقاعات دور في تجسيد هذا الشجن بأسلوب شديد الجاذبية. وبالطبع جاء هذا التوجه الموسيقي مناسبًا لصوت حمزة نمرة وأسلوب أدائه.
الساحر في حزن هذه الأغنية، أنه يتحول مع الوصول إلى اللازمة من صيغة المتكلم الفردية، إلى الحديث بلسان الجماعة "مساكين يا سهرانين الليل/ تايهين وتعبنا م التفكير/ ساكتين وقلوبنا شايلة كلام/ حكايات بنعيدها بالتفصيل"، وكأن المغني يدرك أن الأحداث الخاصة التي دفعته لهذا الإنكسار، ليست سوى جزء صغير من أحزان الناس عامةً، وأنه يجد عزوةً في أن يذوب مع الجماعة فلا يكون وحيدًا في ألمه.
ما بتلاقينيش
"ما بتلاقينيش" أغنية رومانسية صافية، يبوح فيها حمزة نمرة بمكانة خاصة لامرأة واحدة فقط تفكّ شيفرة شخصيته بسهولة. لا يبدو أنه يغني لحبيبة، بل لمرآة يرى فيها نفسه بوضوح، وللملاذ الذي يستطيع فيه أن يكون على طبيعته. الكلمات تكشف عن فارق جوهري بين الناس الذين لم يتمكنوا من فهمه يومًا، وبين هذه المرأة التي تقرأه "من نظرة" وكأنه "كتاب مفتوح".
الأغنية تحمل إحساسًا بالطمأنينة في القرب والقلق في الغياب، ما يمنحها توازنًا بين العاطفة الحميمية والاعتراف بالضعف. وموسيقيًا، تتحرك الأغنية على إيقاع المقسوم الذي يمنحها سلاسة وانسيابًا طبيعيًا، ويعتمد التوزيع الموسيقي أيضًا على مزيج موسيقي ناعم يعزز الإحساس بالصفاء، وتأتي الفواصل الموسيقية التي يقودها الأكورديون لتضيف طابعًا نوستالجيًا دافئًا.
طال غيابك
يبتعد حمزة نمرة في أغنية "طال غيابك" عن الخطاب الفلسفي المعتاد بأغانيه حول ماهية الحياة والمفارقات والعبر فيها. وبدلًا من ذلك يُقدم أغنية بالاد رومانسية تتوافق كلماتًا ولحنًا وأداءً مع أغاني البوب المصري السائدة.
وللمفارقة ينطلق حمزة نمرة من فكرة فلسفية شائعة بالأغاني العربية الرومانسية؛ أن البعيد قد يكون قريبًا، والقريب قد يكون بعيدًا، فيعتمد على هذه الفكرة ليُعبر عن مشاعر الحب والشوق. ليغلف الأغنية الأكثر رومانسية بألبومه بقشرة فلسفية رقيقة تناسب شخصيته ولا تتعارض مع الشائع في هذه الجنرا الموسيقية. ويزيد من جاذبية الأغنية التناغم بين مفاتيح البيانو الرقيقة وشجن الوتريات، اللذان يخلقان الأرضية المتينة لتقديم صوت حمزة نمرة بأفضل أداء له تقريبًا في كل الألبوم.
شمس وهوا
في أغنية "شمس وهوا" يغني حمزة نمرة عن انكسار علاقة حب كانت تمثّل الدفء والصفاء، قبل أن تتحول إلى ذكرى مثقلة بالخذلان. حمزة نمرة يرسم صورة البدايات المشرقة: "كنا سوا/ كنا شمس وهوا"، ثم يتركها تتبدد تدريجيًا حتى تنطفئ تمامًا.
الأغنية تفضح الخيانة أو الخذلان بشكل غير مباشر، وتوثّق أثرها النفسي: "وساب جرحين كبار/ خلوا الكلام ما بينا مات". اللافت أن الأغنية لا تستمرئ الحزن وتغرق فيه، بل تبدو المشاعر فيها متوازنة، مع الوقوف على لحظات الراحة التي تلت الفراق، وكأن الوداع رغم قسوته كان تحريرًا. الأغنية تترك المستمع بين شعورين متناقضين: الحنين للدفء القديم، والارتياح من زوال سحابة كانت تحجب الضوء.
موسيقيًا، يعتمد حمزة على إيقاع متماوج يحاكي فكرة المدّ والجزر في العلاقات، مع حضور لافت للجملة اللحنية التي تتكرر في الكوبليه كاستدعاء لذاكرة لم تلتئم، لتكون أكثر الجمل اللحنية جاذبية على امتداد الألبوم، ترسخ مباشرةً في الرأس بانسيابيتها، لكنها تطالب كذلك بتكرار الاستماع مرارًا، وهي الوصفة السحرية التي تمنح صاحب الأغنية حيث يدركها تذكرة إلى ذاكرة المستمع لسنوات طويلة تالية.
اشترك في كتابة هذه القائمة من فريق بيلبورد عربية كل من عمر بقبوق وهلا مصطفى.