انقسم الألبوم الجديد للنجم حسين الجسمي بالنصف تمامًا بين اللهجتين الخليجية والمصرية، وكان معنى ذلك انقسامه موسيقيًا كذلك بين مدرستين موسيقيتين وأساليب توزيع شديدة التنوع. لذا كان من الصعب ألا يجد المستمعون من جمهوره على امتداد العالم العربي أكثر من أغنية واحدة تجذب انتباههم ضمن هذا المشروع.
حمل الألبوم أيضًا تعاونات متنوعة مع صناع الأغاني من ملحنين وشعراء وموزعين، لكن السابقة كانت اشتراك الجسمي في وضع الرؤية الفنية للعمل مع الملحن والمنتج والفنان المصري هشام جمال -إلى جانب غنائه من ألحانه- لتكون المرة الأولى التي يفسح فيها الجسمي لفنان آخر أن يضع بصمته على مشروع طويل له. وإن كان هذا التعاون قد اقتصر على الأغاني المصرية، فالخبرة الطويلة للجسمي في الساحة الخليجية تجعله يقدم تجارب مدروسة ومتجددة في كل مرة.
عودة حسين الجسمي إلى ساحة الألبومات كانت من الأحداث المؤثرة في موسم الإصدارات الذي شهدناه، وقد سمعنا الألبوم بتمعن، ورتبنا لكم أغانيه الاثني عشر، من الأقل تأثيرًا بنا، إلى الأغاني الأكثر تميزًا والتي تدفعنا منذ صدورها لتكرار الاستماع من جديد.
يا ناقد الناس
رغم أن "يا ناقد الناس" تحمل روح الشعر النبطي الأصيل، بمفرداته الصحراوية الصلبة وصوره التي تستحضر الحكمة الشعبية، إلا أنها لا ترتقي إلى قوة بقية أغاني الألبوم. النص يفيض بالعظة والرسالة الأخلاقية الواضحة: الدعوة لترك الناس وشأنها، والابتعاد عن الغيبة والانتقاد، لكن المباشرة المفرطة جعلت النص يفتقر إلى الدهشة الشعرية أو الانعطافة المجازية التي تخلّد العبارة في الذاكرة.
لحنيًا، تسير الأغنية على خط مألوف جدًا، بلا مجازفة أو محاولة لابتكار جملة موسيقية جديدة؛ إذ تبدو كأنها إعادة اجترار لإيقاعات خليجية مطروقة، لا تمنح الجسمي فرصة لإبراز صوته بالثراء الذي اعتدناه منه. إنها أقرب إلى نشيد وعظي جميل في معناه، لكنه تقليدي في صياغته.
يا نسيم هب جدواكم
ما بين الكلمات الزاخرة بالعراقة والأصالة، لأشعار المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والبصمة العصرية للملحن الشاب ياسر بو علي، نسمع أغنية "يا نسيم هب جدواكم" التي تعيدنا للتراث الموسيقي الخليج بكافة عناصره. وهو بالطبع اللون الذي يخبر الجسمي بأدائه منذ بداياته. لربما لو قدمت التوزيعات شيئًا من التجديد، لاكتسبت الأغنية مزيدًا من العناصر الجمالية. لكن وبكل الأحوال، فلهذا النوع من الأغاني تحديدًا جمهوره، الذي قد يفضل التمسك بالشكل التقليدي للحن.
سد باب القلب
يعود الجسمي للغناء باللهجة العراقية التي تليق به وبصوته، فكثيرًا ما اقترب أسلوب أدائه من الأغاني العراقية الشعبية التي تحظى بجمهور بالملايين حتى خارج العراق. كتب كلمات الأغنية قصي عيسى مستقدمًا تعابير شديدة الخصوصية من اللهجة المحلية، ولحنها الفنان نور الزين بأسلوب شديد الحيوية والإيقاعية، يتشابه مع أسلوب تلحينه لأغانيه الخاصة التي حصدت شعبية كبيرة عبر السنوات.
تفاصيل صغيرة في أسلوب تنفيذ الأغنية كانت لتصنع كل الفرق، ولكانت جعلت الأغنية تتميز أكثر، كالاستغناء عن صوت الكورال النسائي الذي لا مبرر لوجوده ولا يتناسب مع أداء الجسمي، أو استبدال الإيقاعات الإلكترونية في مواضع معينة مع صوت الإيقاعات الحية مثل صوت خشبة الكاسورة التي تأتينا من التراث العراقي بصوت خاص لا مثيل له في إيقاعات العالم العربي.
النور
تأتي أغنية "النور" لحسين الجسمي كأغنية حب وغزل باللهجة الخليجية من كلمات قوس وألحان ياسر بو علي وتوزيع عصام الشرايطي، ورغم لطافتها وسلاسة أدائها إلا أنها لم تترك أثرًا قويًا بعد إعادة الاستماع، وقد يعود ذلك إلى قوة بقية أغنيات الألبوم التي تفوقت عليها في الطرح والتأثير.
مع ذلك لا يمكن إنكار أنها اختيرت بعناية وتضم تفاصيل موسيقية تستحق التوقف عندها، من أبرزها بروز آلة السينث بطابع خليجي واضح في الفواصل، وهو ما أضفى على الأغنية لمسة تجريبية مختلفة تُحسب لصُناعها
أقول إهدا
تأتي "أقول إهدا" كنغمة مشاكسة في الألبوم، تكسر الرتابة وتدفع المستمع إلى منطقة أكثر تجريبية. التوزيع الموسيقي الحيوي يجعل الإيقاع متسارعًا، نابضًا، كأن الموسيقى تركض لتلحق بانفعالات الكلمات. الجملة اللحنية هنا أقل رومانسية وأكثر توتراً، والكلمات تفيض بالحدة ليرد فيها مفردات مثل: "يا متكبر" و"يا متغطرس" و"غرورك سايد وطاغي"، لتجسد صراعًا لا هدنة فيه، وكأن الأغنية كتبت بلسان عاشق ضاق ذرعًا من علاقة حب، فيها شد وجذب لا يهدأ.
مستنيك
واحدة من أجمل محطات الألبوم وأكثرها عذوبة وكان من الذكاء أن تُدرج ضمن خطة الإصدارات في الأسبوع الأول، لتفتتح بها رحلة الألبوم. الفيديو كليب المصور بالأبيض والأسود، أعادنا إلى زمن الرومانسية الكلاسيكية، مجسدًا الحب والشوق واللهفة من منظور بصري حميمي يذكرنا بأجواء أفلام الزمن الجميل.
اختيار الثنائي محمد فراج وبسنت شوقي، وهما من أكثر الثنائيات الفنية حضورًا وحبًا لدى الجمهور، أضفى بعدًا واقعيًا ومؤثرًا على قصة الفيديو كليب، خاصة أن قصة حبهما في الحياة الحقيقية تُعد مثالًا يُحتذى به.
كلمات الشاعر تامر حسين كانت موفقة في التعبير عن المشاعر الدقيقة فيما جاء لحن حسين الجسمي وأداءه منسجمًا مع جو النص. أما التوزيع الموسيقي الذي تولاه مادي، فقد منح الأغنية طابعًا ناعمًا يتماشى مع روحها الوجدانية.
شريط الذكريات
المميز في الإصدارات الخليجية لهذا الألبوم، هو التنوع والتفاوت الكبير ما بينها، هناك الإيقاعي الحيوي، والتراثي التقليدي، والإصدارات العاطفية التي يركز لحنها وأداؤها على نقل المشاعر المكثفة في كلماتها. و"شريط الذكريات" تنتمي للنوع الثالث.
يبدع الجسمي في أداء الجمل اللحنية، فيما نسمع أساليب توزيع متناقضة بين الآلات النفخية الغربية والإيقاع الشرقي، لكن المزيج جاء منعشًا وغير تقليدي، وأسهم في تأطير أداء الجسمي الشجني بأفضل شكل.
في وقت قياسي
تبدو "في وقت قياسي" كأنها محاولة حسين الجسمي لتثبيت معادلة عرفها ونجح بها مرارًا: المزج بين البساطة الشعبية والعمق اللحني الذي يسهل على المستمع أن يحفظه ويردده. الأغنية تحمل كل مكونات الهيت المصري الذي اعتاد الجسمي أن يقدمه في السنوات الأخيرة؛ فهي خفيفة على الوجدان، سلسة في جريانها، وتنساب بلهجة عاطفية لا تفتعل الدراما.
أجمل خلق الله
أجمل خلق الله" هي واحدة من أكثر أغاني الألبوم خفةً، تلتقط نغمات البوب المصري في التسعينات وتعيد تقديمها بروح عصرية. ولعل أقوى عناصر الأغنية هو كلماتها، التي تخلط الرومانسية بالروح المرحة الساخرة؛ فعلى الرغم من احتواء الأغنية على كلمات غريبة عن قواميس العشاق، لكن لا تشعر إطلاقًا أن حسين الجسمي يسخر من العشق، بل يؤدي كعاشق يعرف كيف يمسك بالحب من زاويته الأكثر مرحًا: الفوضى المبهجة، والعجز الجميل أمام سحر الآخر.
أول مرة
أغنية "أول مرة" من كلمات العالية وألحان ياسر بو علي وتوزيع هادي شرارة، تُعد من المحطات العاطفية العميقة في الألبوم حيث تتأرجح بين مشاعر الحب والرغبة في الفراق بسبب العجز عن الشعور بالسعادة وسط هموم لا تنتهي.
أداء حسين الجسمي بطبقات صوته العالية يتناغم تمامًا مع الجو العام للأغنية، وكأنه يصرخ من شدة الألم مما يضفي صدقًا وشفافية على الكلمات. لكن ما يسرق الأضواء حقًا هو التوزيع الموسيقي الحالم الذي يحمل طابعًا دراميًا واضحًا، يجعلك تشعر وكأنك أمام مشهد من مسلسل أو فيلم عاطفي. الأغنية تحمل طاقة درامية عالية، يواكبها الجسمي بأدائه المُعبر الذي نقل تفاصيل الانكسار والتردد بصوت يفيض بالمشاعر.
أنا والقمر
بعد النجاح اللافت لأغنية "فستانك الأبيض" التي أهداها هشام جمال لعروسه ليلى زاهر في حفل زفافهما، والتي حملت توقيع أمير طعيمة في الكلمات وهشام جمال في اللحن ومادي في التوزيع، عاد فريق العمل ليقدم عملًا جديدًا بعنوان "أنا والقمر"، وترافقت مع فيديو كليب يعتمد على تقنية الذكاء الاصطناعي لتجسيد قصة حب هشام وليلى. ورغم جودة التنفيذ إلا أن استخدام الذكاء الاصطناعي في التعبير عن مشاعر إنسانية حقيقية لا يزال خيارًا غير مقنع ولا مبرر لتوظيفه، كونه يفتقر إلى العفوية والدفء التمثيل البشري.
"أنا والقمر" أغنية بسيطة وناعمة تحمل بصمة لحنية دافئة، وصوت حسين الجسمي في طبقته الهادئة يمنحها إحساسًا حميميًا، لكنه لا ينقذها من كونها تعيد تدوير فكرة "فستانك الأبيض" من حيث الموضوع والأجواء، وبالطبع فالهدف هو تكرار نجاحات الأولى. ورغم أن المقارنة قد تكون ظالمة إلا أن "فستانك الأبيض" تظل أكثر صدقًا وإشراقًا، وحققت صدى أكبر.
أما نسخة الريمكس الأفرو التي صدرت لاحقًا لأغنية "أنا والقمر"، فلم تُضف شيئًا للعمل، بل بدت بعيدة عن روح الأغنية الأصلية، وتجربة مقحمة تحاول متأخرةً مواكبة موجة كان لها انتشار عالمي في السنوات الأخيرة.
الحنين
تبدأ أغنية "الحنين" وكأنها في منتصف تنهيدة، أطلقتها الكمنجات لترسم فضاءً من الشجن وتفتح الطريق لبوحٍ ثقيل. وسرعان ما يدخل صوت حسين الجسمي، ليؤدي بأسلوب ما بين الغناء والسرد. التأخير المتعمّد في دخول الإيقاع حتى الدقيقة والنصف يعرّي صوت حسين الجسمي وإحساسه، الذي يبدو وكأنه يقاتل وحيدًا دون درعٍ يحميه ليعبّر عن مشاعر ثقيلة ومركّبة، لا تخففها نقرات مفاتيح البيانو الخفيفة المرافقة للأداء.
أخيرًا يأتي الإيقاع ليزخرف الأغنية مع التحوّل في بنيتها، عندما يبدأ حسين الجسمي بغناء المقطع الثاني "أنا أضحك..."، كترجمة موسيقية للتحوّل الدرامي، من البوح الصادق إلى تجميل الحزن. وما بين الانكسار والاعتراف، تكتمل الأغنية الأكثر شاعرية ورهافةً بين أغاني الألبوم.
اشترك في كتابة هذه القائمة كل من نورهان أبو زيد وهلا مصطفى وعمر بقبوق.