رغم مرور عقود على رحيله، يبقى فريد الأطرش أحد أكثر الأسماء حضورًا في الموسيقى العربية. موسيقاه لا تُستعاد من باب الحنين فقط، بل من باب الاكتشاف المستمر؛ إذ يجد فيها المستمع اليوم تنوعًا لافتًا بين البساطة والابتكار، بين الطرب الكلاسيكي وخفة الدم التي سبقت زمنها.
في ذكرى ميلاده، اختار فريق بيلبورد عربية مجموعة من الأغاني التي تكشف عن وجوه مختلفة للموسيقار المعروف بـ "ملك العود."
ليست هذه القائمة تكريمًا تقليديًا بقدر ما هي دعوة لإعادة الاستماع إلى فريد الأطرش بآذان جديدة، واكتشاف كيف استطاع أن يجعل من صوته ولحنه مرآة لعصرٍ كامل، وصدىً لا ينطفئ في الذاكرة الموسيقية العربية.
يا سلام على حبي وحبك
من بين اللحظات الخفيفة والمحببة في مسيرة فريد الأطرش الفنية يبرز دويتو "يا سلام على حبي وحبك" الذي قدمه مع شادية ضمن أحداث الفيلم الرومانسي الكوميدي "إنت حبيبي" عام 1957. الأغنية من كلمات فتحي قورة ورغم أنها دويتو رومانسي في جوهرها إلا أن الأداء المرح والبسيط الذي ميزها ضمن سياق الفيلم منحها طابعا خاصا ساهم في ترسيخها في الذاكرة الجماعية.
قد يجهل البعض أن الفيلم من إخراج يوسف شاهين وربما يعود الفضل في الروح المرحة التي انعكست على الأغنية إلى رؤيته السينمائية، حيث صنع من الصدام الظاهري بين بطليه أداة كوميدية رشيقة. فالبطلان- فريد وشادية- يلعبان دور شخصيتين لا يطيق أحدهما الآخر، لكنهما يُضطران للمضي في زواج صوري أمام المجتمع.
لحّن فريد الأطرش للأغنية بأسلوب خفيف الظل يلائم مزاج الفيلم وصوتهما المتناغم لكنه في نفس الوقت لم يتخل عن بصمته الشرقية المحببة. ورغم بساطة الكلمات واللحن فإن ما يبقى في الذاكرة هو تلك الكيمياء الفريدة بين فريد وشادية والفكاهة التي أضفتها الأغنية على مشهد تحول إلى لحظة كلاسيكية في السينما العربية.
قلبي ومفتاحه
تظل أغنية "قلبي ومفتاحه"، التي قدمها فريد الأطرش في فيلم "رسالة من امرأة مجهولة" (بطولته مع لبنى عبد العزيز)، إحدى أكثر اللحظات سحراً وخلوداً التي جمعت بين السينما والموسيقى. كتب كلمات هذه الأغنية الشاعر فتحي قورة، ولحنها فريد الأطرش بنفسه، ليصنع بها تحفة موسيقية تجاوزت زمنها وزمان الفيلم الذي صدر عام 1960.
يفتتح فريد الأطرش الأغنية بمقدمة موسيقية بديعة على أنغام البيانو، لتتحول بعدها إلى ما يشبه الهمهمة، وكأنه يتهيأ للبوح العاطفي العميق. ثم تنطلق الجملة الموسيقية الأولى مفعمة بالنفس الإبداعي، حيث تتداخل آلات النفخ مع الوتريات بانسيابية آسرة قبل أن يبدأ فريد الغناء بكلماته الشهيرة: "قلبي ومفتاحه / دول ملك إيديك / ومساه وصباحه بيسألني عليك".
يتميز هذا اللحن بالتقطيعات الرشيقة التي أضافها فريد على الجمل الغنائية، مما منح الكلمات مذاقاً خاصاً ومؤثراً. يُمكن للمستمع أن يشعر وكأن نسمات خفيفة من الموسيقى اليونانية تتخلل اللحن، لكنها مغلفة بروح شرقية أصيلة، وهو تأثر قد يكون نابعاً من الواقع الثقافي لمصر في تلك الحقبة، التي كانت تزخر بتنوع الجنسيات والأنماط الموسيقية.
ورغم أن الأغنية وُلدت ضمن سياق فيلم سينمائي، إلا أنها تجاوزت هذا الإطار بكثير. وقد أعيد تقديمها مراراً بأصوات مختلفة، كما تم استخدامها مؤخراً في مسلسل رمضاني حمل اسمها "قلبي ومفتاحه"، في تأكيد جديد على الأثر العميق والدائم الذي تركته هذه الأغنية في الوجدان العربي، لتصبح رمزاً للحب والعاطفة الخالدة.
تُعد أغنية "حبينا" إحدى أغنيات فريد الأطرش التي تستحق زخماً أكبر، وذلك لما تحمله من حس احتفالي ولمسة خفيفة الظل. في هذه الأغنية، يستعمل الأطرش لفظة جمع في غزله "حبينا" كأداة للدلالة على فرادة وجمال من يتغزل بها في المقطع الأول. ثم ينتقل في المقطع الثاني إلى الغزل الطربي، مسترسلاً في استعمال أوصاف كلاسيكية مثل "يا زهرة على غصن البان" و"وحياة الطير الشادي / الروح باسمك بتنادي".
تجمع الأغنية في موسيقاها بين روح التجديد، الذي يتجلى في استعمال تطعيمات شعبية ممثلة بوصلة الأكورديون بين مقطعيها الرئيسيين، وحضور الصفقات الجماعية كعنصر منظم للإيقاع الحماسي. وفي الوقت ذاته، تحافظ الأغنية على مساحة واسعة للطرب العربي الكلاسيكي، الذي يبرز من خلال وصلة الكولة وتنويعات العود المستعملة في المقطع الثاني.
ما يميز هذه الأغنية أيضاً هو أن فريد لا يقدمها كوصلة لمحبوبة بعينها، بل هي دعوة عامة منه لنشر الحب وحث الناس على البوح بمشاعرهم، وهو ما يظهر جلياً في جملة مثل "يا حلوة الحلوين حبي واسهري / ده الحب بين الناس الله الله محلله". الأغنية من كلمات فريد الأطرش وألحان توفيق بركات، وقد صدرت عام 1957. كما قدمها في فيلم "نغم في حياتي" من إخراج هنري بركات، والذي عُرض بعد وفاته بما يقارب العام، ليكون آخر عمل سينمائي يصوره.
منحرمش من حبك
تُمثل أغنية "منحرمش من حبك" أحد أروع تجليات فريد الأطرش التعبيرية الرقيقة، حيث يربط المشاعر العاطفية الدافئة بدفء العطف والألفة. تلامس هذه الأغنية احتياج الإنسان العميق للأمان، ليصبح في لحظات العشق هو الاحتياج الأهم؛ فكل تفصيلة وكل فعل جميل تُحصيه الذاكرة وتمتن له.
يأتي الأداء الغنائي في هذا المشهد المؤثر من فيلم "حكاية العمر كله" مسترسلاً في المقاطع الغنائية بتتابع سلس، معتمداً على مقدمة البيانو ذات الإيقاع السريع، ومستخدماً العديد من اللزمات الموسيقية التي تتكرر مع كل بيت غنائي لتعطي وقعاً رناناً، مثل "إنت جمبي" و"إنت حبيبي". هذه التكرارات اللحنية والكلمات المفعمة بالعاطفة تُضفي على الأغنية عمقاً وتأثيراً خاصاً.
الكلمات الراقية لهذه الأغنية هي لمرسي جميل عزيز، وقد صاغ ألحانها فريد الأطرش بنفسه.
الحياة حلوة
حين تقرأ تعليقات يوتيوب لأغاني فريد الأطرش، لا بد أن تجد تعليقات من مثل "أغنية أمي المفضلة"، أو "كان والدي يسمعها على أعلى صوت كل مساء".لا يمكن ألا تحب أغاني الأطرش، أو غيره من رموز ذلك الزمن الجميل، في هذا السياق. إلا أن "الحياة حلوة" فيها شيء لا يمكن أن تدركه ببساطة.
هل هي أغنية شجن مغطاة بطبقة من السكّر؟ أم أنها فعلًا نشيد فرح يحتفي بالحياة تحت شرط مستحيل: "بس نفهمها"؟
بين التعليقات من يقول إن "حبيب الملايين" كان حزينًا إلى حدٍ مؤلم، وآخرون زعموا أنه لم ينل التقدير الذي يستحقّه لأنه لم يكن مصريًا تمامًا. لا أعرف مدى صحة هذا أو ذاك، لكنني لطالما شعرت أن في قصة عائلة الأطرش قدرًا من "التراجيديا النبيلة"، ربما لا يوازي ما فيها من ألم وجمال وموت إلا حكاية الجيل الأصغر من عائلة الرحابنة في لبنان.
مع إن فريد الأطرش لم يعطنا الوصفة المثالية "لنفهمها"، ولم يخبرنا كذلك كيف نتخطى "همومها وأوجاعها" بالرقص، إلا أن "الحياة حلوة" تمدك بذلك الأمل عندما تكون بأمس الحاجة إليه.
لاكتب ع وراق الشجر
تُصنف أغنية "لاكتب ع وراق الشجر" ضمن الأعمال الخالدة لفريد الأطرش، ولعل السبب يكمن في معالجتها الفنية العميقة لمفهوم الشوق بحد ذاته. في هذه الأغنية، يعبر فريد عن قسوة غياب الحبيب ذي القلب القاسي، وفي ذات الوقت، يسترجع ويتحسر على الذكريات الجميلة التي جمعتهما، مما يُضيف طبقة من الحنين إلى الشجن.
كلمات الأغنية، التي أبدع فيها ميشال طعمة، تُقابلها ألحان فريد الأطرش التي تعكس هذا الطابع النوستالجي. كان بوسع فريد أن يأخذ الأغنية في اتجاه أكثر حزناً ومرارة، لكنه اختار أن يغني بمصاحبة كورال مبهج وصفقات إيقاعية تعبر عن حلاوة الذكريات السعيدة. هذا المزيج المتناغم من الفرح والشجن، يعكس مرارة الشوق وحلاوة الماضي، مما زاد من قوة كلا الجزئين والأغنية ككل.
تأتي هذه الأغنية ضمن فترة زمنية في مسيرة فريد الأطرش اختار فيها أغنيات تحمل معاني أعمق وتروي قصص أحباء يمتلكون أبعاداً عاطفية أكثر تعقيداً من الأغاني الرومانسية التقليدية، مثل "يا حبايبي يا غايبين" و"زمان يا حب". ربما لهذه الأسباب، تزداد جاذبية "لكتب ع وراق الشجر" مع مرور الوقت، فبينما يشتاق فيها فريد لحبيبه، نشتاق نحن لزمن فريد.