في لحظة لا تشبه سواها، تتثاقل الكلمات، ويتحول الحزن إلى موسيقى صامتة في القلب. رحل زياد الرحباني، لكن صوته ما زال يتردد في تفاصيل أيامنا، لا من حنجرته، بل من صوتٍ آخر، هو صوت فيروز، الذي شكّل معه ثنائيًا فنيًا لا يُشبه غيره.
في هذه الأيام التي نودع فيها زياد، لا نحتاج إلى مرثية بقدر ما نحتاج إلى الاستماع؛ إلى أن نستحضر حضوره في الأغاني التي صنع بها تفاصيل ذكرياتنا مع صوت فيروز الذي كان يلازمنا كل صباح.
سألوني الناس
في خريف عام 1973، غنّت فيروز لأول مرة من ألحان ابنها زياد. كان أكثر من مجرد تعاون فني، بل لحظة ولادة معلنة لمسيرة جديدة. الأغنية كانت "سألوني الناس"، التي قدمتها ضمن مسرحية "المحطة"، في وقت كان فيه عاصي الرحباني مريضًا وغائبًا عن المسرح للمرة الأولى في تاريخهما الفني المشترك.
كتب منصور الرحباني الكلمات ليعبّر عن هذا الغياب الحادّ، عن ألم فيروز وهي تقف على المسرح وحدها. لكن المفارقة أن اللحن لم يُكتب خصيصًا للأغنية، بل كان زياد قد وضعه قبل ذلك لأغنية يعمل عليها مع الفنان مروان محفوظ.
حين استمع منصور إلى اللحن وجد فيه ما يطابق الجو العاطفي للنص، لتولد أغنية عبّرت عن الخسارة، وعن هشاشة اللحظة، بصوت فيروز ولحن ابنها الشاب.
وحدن
عام 1979، وبينما الحرب الأهلية تمزّق بيروت بين شرقٍ وغرب، غنّت فيروز "وحدن". لم تكن أغنية، بل صلاة معلّقة على حبال الصوت، خرجت من وسط الانقسام، وسكنت قلوب كل من خسروا أحبائهم.
كان اللحن الذي وضعه زياد، هادئًا كهمس الخائفين، وحادًا كصرخة تريد أن تخرج. لم يحتج إلى زخارف موسيقية، بل إلى صمتٍ يترك للحن أن يتمدّد مثل ظلّ طويل في آخر النهار.
غنّت فيروز كما لو أنها تمشي في جنازة لا أحد فيها سواها، تنادي الغائبين وتدلّنا على الطريق إلى وجعٍ لم يكن له دواء. في "وحدن"، لم نسمعها فقط، بل رأيناها: واقفة وحدها على مشارف الوطن، تلوّح لكل الذين لم يعودوا.
لبيروت
عام 1984، في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، أصدرت فيروز ألبوم "معرفتي فيك"؛ أول ألبوم يحمل إمضاء ابنها زياد الرحباني، ليقدم فيروز برؤية موسيقية مختلفة كليًا. في الألبوم جاءت أغنية "لبيروت"، التي عبرت المتاريس وتغللت في كل زوايا المدينة.
كتب كلمات الأغنية جوزيف حرب كأنها صلاة على مدينة مُعلّقة بين الرماد والضوء، غنتها فيروز على لحن "كونشيرتو دي أرانخويث" للموسيقار الإسباني خواكين رودريغو. في توزيع زياد نجده وقد تخلى تمامًا عن الآلات النفخية، واعتمد على موسيقى خافتة، تكاد تتلاشى خلف صوت فيروز الذي يصدح عاليًا ليرسم ملامح الشجن.
في عزّ الحرب، كانت تُبث من الراديو في بيروت الشرقية، وتُسمع أيضًا في بيروت الغربية. وحدها هذه الأغنية لم تطلب انحيازًا، بل طلبت أن نتذكّر: أن للمدينة وجهًا واحدًا رغم الندوب. كانت رسالة سلام تجمع أهالي المدينة المحتربين.
كيفك إنت
رحل زياد عن بيروت بصمت دون أن يودع فيروز، ليلحق حب حياته في لندن، دلال كرم. وعاد فجأة، بعد شهور، ليلتقي فيروز صدفةُ، سألته: "كيفك إنت؟ عم بيقولوا صار عندك ولاد. أنا والله كنت مفكرتك برات البلاد".
سكنت الجملة قلب زياد أكثر مما سكنت أذنه. عاد إلى غرفته، وكتبها كما قيلت، ثم سجّل الأغنية بصوته، ووضعها في شريط، وذهب إلى فيروز.
تلك هي القصة الشائعة عن الأغنية، التي تسمعها فلا تعرف إن كانت موجهة من أم إلى ابنها الغائب، أم من امرأة إلى حبيبها الذي فارقها منذ زمن بعيد. لكن بأي حال، ومنذ ظهورها، تحتل "كيفك إنت"مكانة خاصة لدى جمهور فيروز، فهي لم تغب عن قائمة أعلى 50 أغنية ليفانتين منذ أن أطلقتها بيلبورد عربية.
اشتقتلك
من بين أغاني فيروز التي لحّنها زياد، تبقى "اشتقتلك" كواحدة من أغانيه الأسرع إيقاعًا. أغنية راقصة، بخفة موسيقية تُخفي ثقلًا كبيرًا، وتلقي دفعةً واحدة كل المشاعر برسالة محمّلة بالتردّد والكبرياء والحب الذي لم ينتهِ رغم كل شيء.
"برغم الحاصل من زمان/ الوقت الكافي للنسيان/ وعزة نفسي كإنسان/ اشتقتلّك".
اللحن لا يتباطأ. الكلمات تتكرر كأنها تحاصر الجرح كي لا يتسع أكثر. وفيروز، بصوتها المليء بالصبر والتعب، لا تغني بضعف، بل بقوة امرأة تعرف تمامًا أنها تشتاق، حتى لو لم يُقال لها يومًا: اشتقتلّك.
صباح ومسا
تحتل "صباح ومسا" مكانة خاصة بين أغاني فيروز مع زياد. إنها أغنية عن الوجع عندما يصبح أمرًا روتينيًا، ويصير أقل ضجيجًا. أغنية صاغها زياد برومانسية ولغة بسيطة، ليقول أن الحبّ الحقيقي لا يُنسى، ولا يُستبدل، ولا يُهزم، حتى حين يغيب.
اللحن بطيء، ثقيل، كأنه يُجبرك أن تتذكّر. وفيروز، تؤدي بصوت من خَبِرَ الحبّ، لا كبطلة، بل كامرأة قالت كل ما عندها، ولم يَبقَ إلا ذكرى الحب الذي تحيا على عطالته.
صدرت الأغنية عام 2001 ضمن ألبوم "ولا كيف"، الذي توقفت فيروز من بعده لسنوات، ظننا فيها أن "صباح ومسا" ستكون آخر ذكرياتنا مع فيروز وزياد.
إيه في أمل
في عام 2010، وبعد سنوات طويلة من الغياب، عادت فيروز بألبوم "إيه في أمل"، لتمنحنا آخر ذكرياتنا مع زياد الرحباني بصوتها. يصعب اختيار أغنية من الألبوم، كما يصعب اختيار أغاني فيروز الأجمل مع زياد، فكل أغنية لها ذكرى وطعم خاص. لكن سننحاز إلى الأغنية الرئيسية في الألبوم لنختتم القائمة برسالة فيروز وزياد: "إيه في أمل".