لا يتخيل الكثيرون أن طالبًا فاشلًا في مادة اللغة العربية سيصبح مُغنيًا ذائع الشهرة بسبب غنائه بالفصحى، لكن هذا ما حدث مع يوري مرقدي الذي ذاع صيته في مطلع الألفية، ولكنه سريعًا ما تخلى عن الشهرة والأضواء ثم عاد لها بعد سنوات طويلة. رحلة فنية وإنسانية طويلة من أجل البحث عن الذات.
درس يوري مرقّدي التمثيل والاخراج في الجامعة اليسوعية بلبنان، ولم يخطط وقتها لاقتحام عالم الغناء، فسافر لاستكمال دراسته ببريطانيا، ثم عاد إلى بلده ليعمل في مجال الإعلانات.
رغم زواجه وتكوينه أسرة، لم يجد ذاته الحقيقية في الإعلانات. كان يبحث عن إجابة لسؤال طارده خلال رحلته الطويلة إلى لندن: ما هي هويته الحقيقية؟ وإلى أي ثقافة ينتمي؟
ولأنه موهوب في الكتابة والتلحين والتوزيع الموسيقي لم يجد أفضل من الغناء ليجيب من خلاله على هذه الأسئلة، فكتب ولحن وأنتج أغنيات ألبومه الأول "عربيٌّ أنا" الذي صدر عام 2001 .
البحث عن الهوية والغناء بـ"الفصحى"
مغامرة محفوفة بالمخاطر في حياة زوج وأب ترك وظيفته وباع سيارته لينتج ألبومًا كل أغانيه باللغة العربية الفصحى، وتناقش موضوعات تتعلق بالهوية وصورة المرأة وحكايات ذاتية، وكما هو متوقع لم تقبل أي شركة إنتاج معروفة بهذه التجربة.
يحكي يوري مرقدي عن تلك اللحظات في لقاء مع الإعلامية رابعة الزيات ببرنامج "شو القصة" قائلًا : "عرضتُ الألبوم على كل شركات الانتاج العربية لتوزعه، ما حدا قبل فيه. والغريب إن الشركة الوحيدة اللي قبلت توزعه أجنبية. وبعد ما نجح كل الشركات كلموني لينتجولي".
انطلاقة يوري مرقدي كانت مدوية. أغنية "عربيٌّ أنا" بدت استثناءً وسط مشهد البوب العربي؛ مطرب بشعر فضّي ونظارات طبية حمراء يغني بالفصحى على أنغام البوب الصاخبة. صورة مغايرة شكلًا ومضمونًا لمواصفات النجومية السائدة.
تحول يورى مرقدي إلى موضة جديدة في الغناء. يكتب ويلحن الغالبية العظمى من أغانيه. يقدم كلمات فصحى مباشرة وخشنة مثل "عربيٌّ أنا اخشيني/ ويل إذا أحببتني!"، وأحيانا رومانسية مباشرة مثل "خطيرة أنتِ عندما تبتسمين"، أو ناعمة حالمة مثل "ماذا أقول لأذني إن سألّت فمي عنكِ؟".
هذا الاتجاه أكده في ألبومه الثاني "حبس النساء"، عندما ركز على موضوعات واقعية تمس النساء كما هو واضح من عنوان الألبوم، الذي ضم أغنية تحمل اسم "المرأة العربية"، بالإضافة إلى مناقشته العلاقات العاطفية من منظور مادي بحت في أغنية "بِرَسْم البيع"، بجانب بعض الملامح الذاتية وإشكاليات طفولته في أغنيات "مُعلّمة الكيمياء" و"لن أقتل التنين".
صدمات الطفولة وضريبة الشهرة
كشفت أغنيات يوري مبكرًا عن معاناة ذاتية عاشها مع الاكتئاب منذ طفولته، زادت في سنوات مراهقته عقب وفاة والده في حادث سير، وجاءت الشهرة لتشعل آلام الماضي فاهتزت حياته العائلية.
يقول يوري في ذات اللقاء: "بعد نجاح "عربيٌّ أنا" ماكنت متزن. انفصلت عن مرتي وبناتي ودخلت في علاقات كتيره. كان في شيء ناقصني طول الوقت وحاسس إني مش كامل. وفهمت لما اتعالجت نفسيًا إنها آثار لترومات الطفولة".
رغم ذلك واصل يوري مشروعه الغنائي وقدم ألبومه الثالث "بحبك موت"، الذي تخلى فيه لأول مرة عن الفصحى وقدم أغنية باللهجة المصرية، من كلماته وألحان عمرو مصطفى، هي التي حمل الألبوم اسمها. ربما سعى لانتشار أكبر في مصر، خاصة أنه خاض أولى بطولاته السينمائية مع الممثلة المصرية حنان ترك في فيلم "منتهى اللذة".
تضاعفت شهرة يوري، حتى وأن الفيلم لم يحقق إيرادات جيدة في شباك التذاكر. ازداد الطلب عليه في الحفلات الغنائية في القاهرة ومختلف العواصم العربية، لينتقل بعدها إلى شركة روتانا التي أنتجت له ألبومه الرابع "يا قاسي" عام 2005 .
"نقمة" النجاح الأول
تعاقدات بأجر أكبر، إنتشار إعلامي أضخم، لكن ثمة شيء ينغص هذه النجاحات. إنها لعنة النجاح الأول التي حاول تجاهلها ولم يقدر. ففي كل مرة كان الجمهور يقارن أغانيه الجديدة بأغنية "عربيُّ أنا"، وهو الأمر الذي أزعجه لسنوات طويلة على حد قوله:" في فترة من الفترات اعتبرتُ "عربيٌّ أنا" نقمة. لكن في النهايه قلت هيدي غنيتي أنا كتبتها ولحنتها يعني متل بنتي".
لم ينج يوري من الاكتئاب الذي ظل يطارده. خضع لعلاج نفسي وتناول عقاقير علاج الاكتئاب، التي قال إنها حولته إلى روبوت بلا مشاعر. لم يصل لنتيجة ترضيه، فعاد إلى زوجته وبناته وقرر الهجرة إلى كندا واعتزال الغناء.
سبع سنوات كاملة قضاها في كندا بعيدًا تمامًا عن الفن. لكن رحلة البحث عن الذات رست بسفينته على شواطيء الفن مجددًا، فقرر العودة إلى لبنان.
في عام 2012 انفصل يوري عن أم ابنتيه بشكل نهائي وعاد لاستكمال مشروعه الفني في بيروت. لكن القدر وضع في طريقه خبيرة التجميل ألفت منذر، التي وجد في زواجه منها مفتاحًا لأبواب حياة جديدة تداوي جروح الماضي وتصالحه على ذاته.
عرف يوري طعم الاستقرار النفسي والأسري وعاد ليستكمل رحلته مع الغناء بألبوم "أنا الموقِّع أدناه" عام 2015، الذي بدا وكأنه شحنة من الرسائل الغرامية الموجهة لحبيبته.
علاج نفسي في سطور "السيرة الذاتية"
هل استمرت القصة كما هي؟
بالطبع لا. فرغم أن زواجه ظل الشيء الوحيد الثابت في المعادلة، إلا أنه لم يمنعه من الاعتزال مجددًا، وتحديدًا بعد جائحة كورونا. فترة وصفها بأنه سمع لأول مرة صوت نفسه عندما ساد الصمت العالم أجمع. غير أن هذا الاعتزال لم يكن جادًا، بل أقرب إلى "انعزال مؤقت" كما وصفه في لقاء مع الاعلامي عمرو الليثي ببرنامج "واحد من الناس".
وقد أكد الواقع ذلك، حيث عاد يوري بعدها ليقدم أغاني جديدة تتناول موضوعات تشبه هذا العصر، مثل أغنية "شوجر دادي" التي جاءته فكرتها من حديث دار على مائدة عشاء بينه وبين فتاة عمرها 16 عامًا كانت تتحدث بجرأة عن علاقتها برجل في عمر أبيها لأنه ثري وينفق عليها.
تعامل يوري مع الفن خلال السنوات الأخيرة بمنظور الرسام الهاوي الذي كلما زاره طيف الإلهام قرر العبث بفرشاته وألوانه ليخرج بلوحة تعبر عن أفكاره دون قيود أو حسابات فنية.
لم يكتفِ بالحياة بين نغمات السلم الموسيقي، فعاد إلى مدرجات الجامعة اليسوعية، لكن هذه المرة كأستاذ يُدرِّس للطلاب مادة التمثيل، وواصل رحلة علاجه النفسي بكتابة "سيرته الذاتية" التي يكشف فيها كل شيء "ممنوع" عن حياته؛ سطور جريئة قد تدفعه للهجرة مجددًا، أو كما قال في لقائه التليفزيوني الأخير مع الإعلامية رابعة الزيات: "وقت ما تتنشر هي المذكرات راح أهرب للبرازيل. رفقاتي نصحوني بهي الخطوة وأنا بفكر فيها لأني ما بتحمل ردود الأفعال عليها".