بعد مرور حوالي 15 عام على دخوله المشهد، تسلل ليجي-سي في الفترة الماضية إلى قوائم الأكثر استماعًا، لنراه فجأة هذا العام يدخل أكثر من قائمة من قوائم بيلبورد عربية من الهيب هوب إلى الإندي، وقد حققت آخر أغانيه "لو نسياني" مراكز متقدمة على هوت 100.
قبل أن نعرفه كرابر، كان ليجي-سي فتى يختبر صوته بفضول لا يخلو من الجرأة. في فيديو قديم انتشر على الإنترنت، لم يكن قد تجاوز الثالثة عشرة من عمره فيه، وكتب تحت اسمه "عضو باند طنطا بيت بوكس"، حوّل أغنية وردة الجزائرية "بتونس بيك" إلى بيت بوكس، وكان من الواضح في الفيديو أن في رأسه مشروعًا موسيقيًا سيخرج عاجلًا أم آجلًا.
بدأ بعدها ابن طنطا رحلته في إنتاج البيتات على ساوندكلاود عام 2010، تحت اسم Legendator. علّم نفسه بنفسه، وتدرّج بصبر من التجريب بالإيقاع إلى بناء هوية صوتية إنتاجية خاصة به. ظهوره المبكر في تحدي BeatMakers Battle ضمن فعالية "يا تراب يا تموت" في مواجهة كاش رولز، كشف عن قدرته على المزج بين الدقة التقنية والخيال الموسيقي، وهي القدرة التي ستتطور لاحقًا إلى بصمة من الصعب تجاهلها في المشهد.
أما لحظة التحوّل الحقيقية، فكانت حين قرر، في سنته الثالثة من دراسة الحقوق، ألا يكتفي بالإنتاج، وأن يكتب... ويكون رابر. ولهذا، نكتب هذا النص لا لنعدّد إنجازاته، بل لنقف عند خمسة أسباب تجعل منه اسمًا يستحق كل هذا التقدير، وربما أكثر.
أسلوب الكتابة: إخلاص دائم لصوته الداخلي
يتفق سمِّيعة الهيب هوب في المشهد المصري على أن صوت ليجي-سي مشغول ليُسمع بعد الثانية بعد منتصف الليل. يتكرر هذا التعليق على أغلب أغانيه في اليوتيوب ومواقع التواصل، إلى جانب تعليقات مثل: "الراجل اللي جابلنا كلنا اكتئاب" أو "مش عارف أموف أون بسببك يا فنان".
مع السنوات، أسس ليجي-سي أسلوبا كتابيًا خاصًا به، وضعه في خانة خاصة وحده بعيدًا عن باقي الرابرز في المشهد. تطور هذا الأسلوب مع السنوات دون الاعتماد على صيغة تقليدية أو تعبيرات مألوفة، حيث وظف كلمات وصورًا جديدة تعبر عن فلسفته في الحياة. غالبًا ما رافقت كتابته هوية صوتية عميقة نابعة من داخله، لا تحاكي الآخرين ولا تذوب في التيّار السائد بل تغرد خارج السرب.
عندما أصدر ألبومه القصير "أجزخانة" في 2020، كان المشهد غارقًا وسط بارات الفلكسينغ والتجبح بالسطوة والنفوذ. انساب صوته من الخلف محملًا بمشاعر حقيقية. قال في تراك بيتادين: " أنا مدغدغ أنا متكسر / أنا متدمر في قلبي خنجر"، ليقدم اعترافًا علنيًا بانكسارٍ لم يعتده جمهور الراب كثيرًا. حمل هذا الألبوم تراكات "روشتة" و"كمادات"، قدمها للمستمعين كوصفة موسيقية تضمد الجروح وتخفف وجعها بباراته.
قد تشعر أحيانًا أن ليجي-سي لا يوجّه أغانيه للجمهور، بل لك وحدك. كأنّه صديق قديم يجلس في غرفتك بعد منتصف الليل ليحدثك عن نفسك، بصوت خفيض لكنه صادق. بلغت هذه التجربة ذروتها في "تروح لمين"، الأغنية الرسمية لفيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو". بقي وفيًا لصوته الداخلي، وطوّره ليقف عند تقاطع الهيب هوب والإندي، في موجة بوب جديدة بدأنا نسمعها تتشكل بوضوح في المشهد المصري مؤخرًا.
الإنتاج الموسيقي: صانع بيتات عاشق للآلات الحية
تميّزت بصمة ليجي-سي الإنتاجية بحضور لافت للآلات الحيّة، بدلًا من الاعتماد على العينات الجاهزة أو الأصوات الإلكترونية فقط. كان واضحًا أنه يبحث عن صوت عضوي يحمل الكثير من التفاصيل منذ إصداراته الأولى. جاء تراك "اتنين بالليل" كأول هيت له في المشهد، تعاون فيه مع عازف الجيتار الكهربائي سامر الخان، الذي أعطى للتراك حسًّا دراميًا مطعمًا بميلودي شرقي.
تطور هذا التوجّه لاحقًا في "مش ده اللي اختارته"، الذي ضمّ توزيعًا غنيًا مع أكثر من عازف على التشيلو والكمان والبايس، بمشاركة محمد خفاجى على الجيتار الذي تعاون معه في تراكات أخرى مثل "تاني". أمّا التحول اللافت، فجاء بعد ست سنوات في تراك "النية"، الذي يُعدّ من أبرز محطاته الإنتاجية. تعاون مع عازف الجيتار أوسو لطفي، واحد من أبرز الأسماء في مشهد الإندي، والذي أضاف في نهاية التراك صولو جيتار، كان القفلة المطلوبة لتراك بهذا الذكاء الإنتاجي.
التعاونات: ينسجم ولا يذوب
من النادر أن تجد اسمًا يمرّ بسلاسة بين غرف التسجيل المختلفة في مشهد الراب دون أن يفقد نبرته الخاصة. ليجي-سي واحد من هذه الأسماء. محبوب من الجميع، من الرابرز إلى المنتجين. أولًا لأنّه فنان موهوب، وثانيًا لأنه يعرف تمامًا كيف ينسجم وسط أي مشروع دون أن يطغى عليه أو يذوب فيه. كل تعاون يدخله يبدو محسوبًا، وكأنّه إضافة مدروسة إلى مسيرته وليس مجرد ظهور إضافي.
في الفترة الأخيرة، قدّم عددًا من التعاونات، منها تراك "نو بروبليمو" مع مهاب، وتعاونه اللافت مع المنتج إسماعيل نصرت في "لو نسياني"، التراك الذي دخل قوائم بيلبورد عربية ووصل إلى قائمة هوت 100 وقائمة أعلى 50 إندي وقائمة أعلى 50 هيب هوب، مؤكّدًا حضور صوته في مختلف المشاهد.
لكن أبرز ظهور له كان في ألبوم "الرجل الذي فقد قلبه" لمروان موسى، وتحديدًا في تراك "كلميني بالليل" الذي يمكن اعتباره أنجح التعاونات في الألبوم. خاصةً وأن الهوك بصوت ليجي-سي كفيلة أن تعلق برأسك من السماع الأول، وأنها تحمل نوستالجيا بوب التسعينات والعصرنة الإنتاجية في الإيفكتات على الصوت.
رؤية بصرية مختلفة
على عكس كثير من الرابرز في المشهد المصري الذين يرتبط حضورهم البصري بالكاميرا والـ"براند"، يبتعد ليجي-سي غالبًا عن الواجهة. لا يظهر كثيرًا، لا في اللقاءات ولا في كليبات تقليدية تعتمد على الأداء أو الإبهار البصري. لكن المدهش أنه حين يختار الظهور، لا يبدو مترددًا أو قلقًا. بل يظهر كما هو بملامح هادئة، وحضور أقرب للمراقبة منه إلى الأداء.
تطوّر حضوره البصري من صور مشوّهة وتجريبية إلى أغلفة تحمل أثرًا واضحًا للتعب والعزلة. يقف على غلاف ألبومه القصير "أجزخانة" بجانب ميكروباص داخل مشهد نوستالجي باهت. وفي "بلان بي"، يبدو كمن يلتقط صورة جنائية في قسم شرطة، محاصرًا بالضوء البارد.
شكّل كليب "عرفه" أول تحوّل بصري حقيقي في مسيرة ليجي-سي. بدأ الفيديو كقصة مافيا تمثيلية، مليئة بالحركة والتوتر، لكن حضوره لم يكن جزءًا من هذا الصخب. ظهر بعد نحو دقيقة، جالسًا على طرف السرير، يوجّه الراب إلى الكاميرا بهدوء يشبه المراقبة.
في ألبومه الطويل الأول "بجد"، ارتقت لغته البصرية إلى مستوى جديد. رافق كل تراك بفيديو من نوع one-take loop، حيث تتكرر الحركة نفسها كل دقيقة مع تغييرات طفيفة تبرز التفاصيل. في كليب "سويسرا"، أحد أكثر التراكات سريالية، يقف وحيدًا في المترو، لا يفعل سوى الانتظار.
غزارة بلا عشوائية
رغم ما توحي به نبرته من انعزال، لم يتوقف ليجي-سي يومًا عن صناعة الموسيقى. بالعكس، حافظ خلال السنوات الماضية على وتيرة إنتاج نشطة، دون أن يفقد ملامحه أو يكرر نفسه. من الألبومات القصيرة إلى التراكات الفردية، من تعاونات متفرقة إلى ألبومات مفاهيمية، تنقّل ليجي-سي بين الحالات والتجارب دون أن ينقطع.
حتى حين أعلن في سبتمبر 2020 أن "مفيش مانع" سيكون آخر تراك له، لم يستغرق غيابه أكثر من أربعة أشهر، عاد بعدها بتراك "ثرثرة"، وكأنه يذكّرنا أن الانسحاب عنده ليس نهاية، بل ضرورة مؤقتة.
بعد كل هذه السنوات، وبعد أن تعرفنا على ليجي-سي كمُنتج وصوتٍ لا يشبه أحدًا، وككاتب يعبر عن أعماقنا بصراحة نادرة، وكفنان لا يحب الظهور بلا معنى لكنه عندما يفعل يكون حضورُه مختلفًا، نتمنى أن نراه أكثر. أكثر في الحفلات، أكثر في اللقاءات، وأكثر في لحظات المشاركة مع جمهوره.