على مدى أكثر من ثلاثة عقود، و29 ألبومًا، بنت أنغام أرشيفًا غنائيًا متنوعًا، تنوعت حكاياته ومشاعره وتوجهاته الفنية، ووحّده صوتها الذي لا نجد له شبيهًا عبر أجيال متتالية من فناني العالم العربي. اختياراتها لأغانيها انطبعت في ذاكرة جيل كامل حيث كانت كل أغنية مرآة للحب والخذلان، للأمل والانكسار، وللحياة كما نعرفها بكل تناقضاتها وتعقيداتها.
وبينما تستعيد أنغام عافيتها وتعود لجمهورها بعد أزمة صحية، وجد فريقنا نفسه يعود معها إلى أرشيفها الضخم، يفتّش بين عشرات الأعمال ليختار الأغاني التي لا تزال تسكننا، وتضيء محطات مختلفة من مشوارها الفني.
محدش يحاسبني
لعل أكثر تجارب أنغام جرأةً عبر مسيرتها، هو ميني ألبوم "محدش يحاسبني" الصادر عام 2010، الذي بدا كخطوة صادمة من النجمة المنحدرة من المشهد الطربي. الجرأة بدأت من البوستر، الذي تظهر فيه أنغام مرتدية نظارة سوداء كبيرة، بإطلالة شبابية عصرية وإن كانت بمعايير الثمانينيات؛ العقد الذي بدأت به أنغام مسيرتها ولكن بصورة مغايرة، أكثر وقارًا، تلائم الأغاني الطربية التي قدمتها.
الأغنية الرئيسية "محدش يحاسبني"، من كلمات أمير طعيمة وألحان كريم بغدادي وتوزيع حسن الشافعي، جاءت كترجمة موسيقية لهذه الإطلالة، حيث اعتمد حسن الشافعي اعتمد على سامبلينغ من أغنية "I Was Made for Lovin’ You" لفرقة KISS، ليضع أنغام في مزيج مدهش بين النغمات الشرقية وموسيقى الديسكو السبعيناتية.
والكلمات أيضًا تمثل ثورة: "عايزة أعيش عمري بحرية محدش يحاسبني/ نفسي أشوف الكون بعينيا باللون اللي عاجبني". إنها أشبه ببيان حرية أو صرخة فردية تطالب بامتلاك الحياة دون وصاية. *من اختيارات عمر بقبوق
رجعنا في كلامنا
في ألبوم "عمري معاك" الصادر عام 2003، كانت أغنية "رجعنا في كلامنا" واحدة من تلك الجواهر المخفية التي لم تنل ما يليق بها من الضوء، رغم أنها تحمل ملامح عمل أوبرالي مصغّر. أغنية أٌعيد اكتشافها بعد أداء أنغام الرائع لها في حفلة "ليلة صوت مصر 2023"، قدمت أنغام الأغنية وكأنها لم تكتب قبل عشرين عاماً، بل وكأنها تولد من جديد على خشبة المسرح.
الأغنية من كلمات نادر عبدالله، الذي يستخدم لغته العاطفية بالسرد لينسج تساؤلات تعكس التردد بين البعد والعودة.
اللحن الذي صاغه تامر علي جاء مشحوناً بالحنين، يتأرجح بين الرجاء والخذلان، كأنما يتنفس مع كل كلمة. لكن سر جمال الأغنية يكمن في توزيع فهد، الذي أحاط الأغنية بخطوط متعددة من الوتريات، لتتحول إلى مشهد موسيقي أوبرالي. *من اختيارات عمر بقبوق
لا تهجي
من بين أغنيات أنغام التي تستحق أن تُذكر كلما تحدثنا عن مشاركتها في الأغنية الخليجية، تبرز "لا تهجى" من ألبومها الصادر عام 2018 بعنوان "راح تذكرني"، الأغنية التي كتبتها العالية ولحنها ياسر بو علي ووزعها عصام الشرايطي، حملت كل ملامح النضج الفني لأنغام، من حيث الأداء والاختيار والصدق في التعبير.
ما يلفت الانتباه في "لا تهجى" أنها لم تعد مجرد أغنية خليجية، بل تحولت إلى واحدة من أغاني أنغام التي يطلبها الجمهور على اختلاف لهجاته، لدرجة فاجأتها هي شخصيًا حين طلبها منها الجمهور المصري بحماس في إحدى حفلاتها العام الماضي، هذا الحضور العابر للهجات قد يكون عائدًا لعذوبة أدائها أو ربما لقوة الكلمات التي تقول فيها ببساطة جارحة: "مو على كيف الزمان ولا على كيف الظروف / لعن أبو حي الظروف اللي بتوقف بيننا".
في هذا البيت تحديدا تُجسد أنغام غضبها من القدر ومن المسافة التي تفصلها عن من تُحب، لكنها تفعل ذلك بانسيابية لا تصطنع الألم بل تُقدّمه كما هو. تضافرت عناصر الأغنية كلها- من الكورال الذي يردد الكلمات معها، إلى التوزيع الموسيقي المتصاعد- لتحولها إلى ما يشبه النشيد العاطفي، أو الحكاية التي يرويها العشاق حين يعجزون عن تغيير النهاية. *من اختيارات نورهان أبو زيد
مابتعلمش
من بين الأغاني التي تُظهر عمق أنغام كفنانة قادرة على تجسيد أكثر المشاعر إنهاكًا بحس صادق وأداء داخلي، تأتي أغنية "ما بتعلمش" التي صدرت ضمن ألبوم "كل ما نقرب لبعض"عام 2007. الأغنية من كلمات أمير طعيمة وتوزيع طارق مدكور وهما من أبرز الأسماء التي شكّلت مع أنغام شراكات فنية ناجحة على مدار سنوات.
لكن "ما بتعلمش" تحديدًا تختلف عن غيرها، فهي ليست مجرد قصة حب بل حالة نفسية مركبة تعيشها أنغام وتُجسدها بصوتها، امرأة تعود كل مرة لحبيب يُؤذيها دون أن تتعلم يظهر ذلك بوضوح في المقطع: "يروح ويغيب وينساني/ ولما يجيني من تاني/ يسامحه القلب في ثواني/ كأنه ليالى ما تألمش"، هنا تختزل أنغام كل تناقضات الحب المؤذي: الغياب و الرجوع والمغفرة السريعة بل والنكران المؤلم لليالي الوجع.
اللحن الذي صاغه خالد عز جاء سلسًا ينساب بهدوء لكنه يحمل في عمقه وجعًا خفيًا يتيح لصوت أنغام أن يتسلل إلى داخل القلب دون صخب. وقد وضعت في أدائها لهذه الأغنية كما هائلا من المشاعر وكأنها لا تغني فقط بل تعيش كل كلمة وتُعيد سردها بصدق من عاشها. *من اختيارات نورهان أبو زيد
سيدي وصالك
صدرت أغنية "سيدي وصالك" عام 2001 ضمن ألبوم أنغام "ليه سبتها"، في فترة شهد فيها البوب المصري تحولات واضحة، حيث بدأ دمج الطابع الرومانسي مع أساليب جديدة في التلحين والتوزيع. أظهر أداء أنغام قدرة استثنائية على التعبير عن الشوق والحنين بصوتها الدافئ والواضح، الذي انساب بين المقاطع بهدوء رغم سرعة اللحن، في ما يشبه الرقص الخفيف على أوتار العاطفة.
كتب كلمات الأغنية الشاعر عزت الجندي، المعروف بقدرته على صياغة مشاعر الحب والشوق بأسلوب رقيق وعميق في الوقت نفسه، وهو ما يظهر بوضوح في اللازمة: "سيدي وصالك زاد عليا حنيني، زادني دلالك عشق وأنت ناسيني". وقد صاغ شريف تاج لحن هادئ في تأثيره ما منح الأغنية إحساسًا بالروح الحيوية دون المساس بالبعد الرومانسي والحنيني. بينما وزعها طارق عاكف بلمسة متوازنة بين الآلات الإيقاعية واللحنية مع ليبرز الدفء في صوت أنغام فوق كل شيء. *من اختيارات نور عز الدين
هو إنت مين
كالعادة، تبرع أنغام في سرد المشاعر كما لا يفعل أحد، عبر تحويل لغز الحب وجماله في أغنية "هو إنتا مين" إلى تجربة إنسانية كاملة، حيث يحمل صوتها مزيجًا من الهشاشة والاندفاع، وكأن الحب ذاته جرح ودواء في آن واحد.
الكلمات التي وضعتها الشاعرة هالة الزيات في أول تعاون لها مع أنغام، تطوي الزمن، لتُظهر كيف يمكن لشخص واحد أن يعيد ترتيب كونٍ كامل من الأحاسيس. وعلى المستوى الصوتي نشعر الشيء نفسه، إذ يتأرجح صوت أنغام بين ضدين في شعور يجمع بين الخلود والإلحاح الآني.
ما يجعل الأغنية مدهشة هو رفضها لأية حلول؛ فالرغبة هنا لا تعرف الاكتفاء، وتبقى بلا نهاية، وذلك التوتر بالذات هو ما يجعلها خالدة في الذاكرة. *من اختيارات مها النبوي
نجوم الليل
مسيرة أنغام أكبر من الهيتات، فسواء كانت الأغاني التي تختارها ستضرب وتحصد مئات ملايين الاستماعات أو لا، لن يمنع ذلك أنغام لكل الأحوال من أن تقدم قطعًا موسيقية خالدة يجسدها صوتها. "نجوم الليل" من أوضح الأمثلة على ذلك. صدرت ضمن ألبوم "ليه سبتها؟" الذي ضم كذلك أحد الهيتات الأبرز في مسيرتها "سيدي وصالك" وكذلك "ما جبش سيرتي" وغيرها من أغاني. لكن "نجوم الليل" جاءت بنفس مختلف، وكانت من الجواهر المخبوءة في الألبوم.
مفتتحةً بصوت آلات التخت الشرقي، تنساب العلامات الموسيقية في لحن أمير عبد المجيد وكأنها شلال، وينساب معها صوت أنغام وهي تؤدي بمنتهى السهولة على طبقة واحدة، كلمات وائل هلال الرقيقة، التي تؤكد الحب المطلق، وتترك للعزال أن يعدوا نجوم الليل. *من اختيارات هلا مصطفى
بتحبها ولا
من الأغاني العديدة التي تثبت تنوع المواضيع واستثنائيتها في أغاني أنغام التي تحمل معظمها حكايات معقدة، تنقل حالات وجدانية عميقة. لكن "بتحبها ولا" جاءت بنبرة تحدي وثقة مطلقة، لم تكن معتادة من أنغام في تلك الحقبة وقد صدرت في العام 1999 ضمن ألبوم "وحدانية".
"بتحبها ولا بتفكرك بية؟ هيا أنا ولا جايز أنا هية؟ كل اللى شفها قال/ توأم شبهنا خيال/ صوره وصوت ليا" كتب بهاء الدين محمد حكاية مربكة عن فتاة جاءت لتسخر، أو ربما تواجه، حبيبها الذي انتهى به الأمر بفتاة كانت نسخةً عنها. وفيما يبدو لحن رياض الهمشري بسيطًا وحيويًا، إلا أنه ضم نقلات لحنية تخطف الأذن بجاذبيتها، وتعيدنا مباشرة لتذكرنا أن من يؤدي الأغنية مغنية طرب من العيار الثقيل. *من اختيارات هلا مصطفى
لوحة باهته
هناك أغاني لا تُبنى على لحن طاغٍ أو صوت مستعرض، بل على صدق التجربة. "لوحة باهتة" لأنغام واحدة من تلك الأعمال التي تُشبه الاعتراف أكثر من كونها مجرد أغنية. ترسم الكلمات صورة الفراق بلا زينة: "عارف إحنا طول فراقنا زي إيه.. زي لوحة باهتة لونها ميترسمش"، تشبيه بسيط لكنه يلتقط جوهر العلاقات التي تفقد معناها ببطء.
في هذا العمل لا يقتصر أداء أنغام على تقديم النص، بل يبرز من خلاله تفاعل واضح مع المعاني المطروحة، نبرة صوتها تتنقل بين مساحات تحمل شيئًا من الانكسار وأخرى أقرب إلى الحنين، من دون إفراط في التعبير، ويظهر ذلك بوضوح في مقطع: "كنت عمري يا اللي مقصود بالكلام، كنت ظهري ونفسي ظهري ميتقصمش"، حيث يأتي الأداء أقرب إلى تعبير داخلي يعكس طبيعة الكلمات.
تتميز "لوحة باهتة" بأنها لا تقدّم الفراق كنهاية واضحة أو بداية جديدة، بل تطرحه كحالة مفتوحة يمكن أن يراها كل مستمع من زاويته الخاصة، وهذا ما يمنح الأغنية طابعًا شخصيًا يجعلها باقية في ذاكرتي أنا شخصيًا. *من اختيارات ياسين محمد