عندما أدرك حميد في ربيع عام 1983 أن ألبومه الأول "عيونها" حقق فشلا ذريعا في سوق الكاسيت المصري، لم يستسلم للإحباط، بل تضاعفت رغبته في تصعيد الرهان على وصفته السحرية التي بدأت تتشكل في ذهنه منذ كان طالبا للموسيقى في المرحلة الإعدادية في مدينته بنغازي منتصف السبعينيات. استغرقت تلك الوصفة قرابة عقد كامل بعد "عيونها" لكي تصبح الوجبة المفضلة لجيل كامل.
كان حميد الشاعري قد هرب من ليبيا لأسباب نصف سياسية -نصف فنية. في عام 1978، وفي حملة على الآلات الموسيقية الغربية، رأى الأورغ الخاص به يُحرق في ميدان عام مع آلات غربية أخرى. بعدها وصلته تهديدات دفعته إلى الهرب. في بريطانيا بدأ بدراسة الطيران، وفي الأسكندرية ترك الطيران وبدأ في احتراف الموسيقى مثيرا غضب العائلة لزمن طويل.
الوصفة السحرية
الوصفة التي طالما رغب حميد في تجربتها اعتمدت على ثلاثة مبادئ رئيسية. التحدي ، المواكبة ، إمساك العصا من المنتصف.
وكأن مسيرة العقود الأربعة في مجال بالغ القسوة في تفاصيله التجارية ليست إلا محاولة متكررة لإنجاح ألبوم "عيونها"؛ محاولة ليس لدخول سوق الأغنية المصرية، ولكن لتغيير وجهها. في لحظة انتقالية عانى فيها جيل جديد من الجمهور من أجل إيجاد موسيقى تعبر عنه، بعد أن انفصل مزاجيا عما صار يسمى بـ"العصر الذهبي للأغنية الغربية"، انبرى حميد لهذا التحدي.
فإذا نظرنا إلى مسيرته الطويلة، وجدنا أن أحد إنجازاته الحقيقية يتمثل في تقديم "عيونها" بتنويعات مختلفة على مدار أربعين عاما. إنها فكرة المواكبة، كما لخصها حميد نفسه: أن المشهد المصري يجب أن يتوقف عن النظر بشكل متواصل إلى الشرق، ويبدأ في الاتجاه إلى الغرب.
كان يقصد "الغرب القريب"، الغرب في أزقة ليبيا، وأحياء تونس، وحومات الجزائر والمغرب، التي أنتجت مشهدًا متطورًا للموسيقى البديلة، أسهم فيه فنانون مثل ناصر المزداوي وأحمد فكرون وعبد الوهاب الدوكالي وفرقة ناس الغيوان. مشهد كان خارج رادار الجمهور المصري التقليدي، إلا أن حميد رأى فيه نبعا يمكن أن ترتوي عليه الموسيقى المصاحبة لذلك الجيل بالكامل؛ نبع من التراث نصف المجهول آمن الموسيقي الشاب أنه صالح لصناعة مزاج السنوات المقبلة. ولننظر مثلا إلى إيقاع "الغيطة" الخاص بالأعراس الليبية، وكيف أصبح الأساس الإيقاعي لواحدة من أنجح أغاني التسعينيات، "نور العين" لعمرو دياب، التي تعاون فيها حميد كموزع مع ملهمه الأول ناصر المزداوي كملحن.
"شيف" الأغنية العربية
موقع الموزع الموسيقي كان الموقع المثالي لاختبار ثالث مكونات خلطته السرية؛ إمساك العصا من المنتصف. بدلا من التركيز على الغناء والتلحين، رأى أن التوزيع الموسيقي يعطيه مساحة أكبر، ويسمح له بتأثير أعظم. كانت تجارب التحديث في الفرق الموسيقية، مثل طيبة ويحيى خليل وغيرهما، بالغة الأهمية، وربما سابقة لعصرها بعقود. غير أن الوحش المسمى بجمهور الكاسيت سيظل عائقا أمام استمرارية تلك التجارب، وهو ما انتبه إليه حميد في تجربة "عيونها".
حميد الشاعري لم يكن المحدِّث للأغنية العربية مثلما يروج البعض، لكن أفضل "شيف" نجح في تحويل أكثر الأطباق تعقيداً إلى وجيات سريعة يمكن إلتهامها في قالب يناسب تماماً ذراعي الصناعة الأهم خلال التسعينات: الكاسيت والحفلات الجامعية. "شيف" قاد تمرداً صامتاً لم ينتبه إليه حراس الصناعة التقليديين إلا بعد فوات الأوان. لقد أصبح "كابُّو" في الساعات التي ينام فيها سادة المدينة. يكفي أن نرى كيف تحول صانع ألبوم "عيونها" الفاشل خلال ست سنوات فقط إلى كوينسي جونز عربي، بقيادته لكورال يضم القائمة الكاملة لنجوم التسعينيات المستقبليين في الأغنية الجماعية "العالم قام" (1990)، التي أنُتجت في أعقاب غزو الكويت.
سياسة إمساك العصا من المنتصف مرت بإختبارات بالغة الثراء ، حتى لو لم تكن مجزية على الصعيد التجاري. ربما كانت تجربته مع أحمد منيب في ألبوم مشتاقين (1986) هي الأقل نجاحاً من حيث الأرقام. لكن نفس الإيقاعات حققت نجاحا مدويا عندما طبقها مع علاء عبد الخالق في العام نفسه في ألبوم "مرسال"، الذي كرر فيه علاء غناء "الحب ليه صاحب" لمنيب. واستمر نجاح الإيقاعات نفسها في أعماله مع هشام عباس وحسن عبد المجيد وغيرهما.
غير أن المعمل الحقيقي لخلطته السرية كان ألبوم "سنين" (1985) مع ناصر المزداوي، الذي بدا فيه حميد مثل مصمم ديكور يؤثث منزلا كاملا بقطع ومفروشات عمل عليها المزداوي لعشر سنوات. فيحول مقطوعات الموسيقى البديلة بالغة الحداثة، قليلة النجاح التجاري، إلى الدليل الوافي لصنع "الضربات الغنائية" لموزعي التسعينيات، بل وحتى يومنا هذا.
صوت القاهرة
ربما يكون التوزيع الجديد لأغنية "عيون حوريات" في الألبوم سالف الذكر هو ألمع الأمثلة على تصور حميد عن قاهرة الثمانينيات وما بعدها؛ الخلفية الموسيقية المتخيلة لشوارع الزمالك والمعادي الهادئة؛ التيمة التي يستمع إليها البطل (أحمد زكي) في فيلم "الحب فوق هضبة الهرم" وهو يتسكع في وسط البلد. خلطة سرية تجمع التراث الليبي مع إيقاعات ديفيد بوي. خلطة تصير إرثا يدوِّي صداه بعد أربعين عامًا في تراكات مروان بابلو والوايلي، وفي أغاني "بقيت وحيد" و"حبيبي ليه" لـ توو ليت.
في نظر الكثيرين تمثل أغنية "لولاكي" لحظة الانتصار الكبرى لحميد، وتأثيره الصارخ على الموسيقى المصرية السائدة آنذاك؛ تلك الأغنية التي غناها علي حميدة في ألبوم يحمل اسمها في صيف 1988، وحقق بها مبيعات قياسية ربما زادت عن ستة ملايين نسخة من شرائط الكاسيت في ذلك الوقت. لكن لا يجب أن ننسى ألبوم "كواحل" (1991)، الذي ظهر فيه حميد مغنيا إلى جانب كونه موزعا. كان ذلك الألبوم، بكل تقنيات الـscratching والنوتات الصوتية المكررة بمثابة نشيد للتفاؤل بعد نهاية حرب الخليج، وهدية لجيل من المراهقين المصريين العائدين من الخليج يبحث عن صوت يعبر عنه.
الطفل الذي كان يقضي جزءًا كبيرًا من إجازاته الصيفية بموطن أمه السكندرية، صانعا من علبة الحلوى المعدنية القديمة آلة بيانو بدائية يعزف عليها أغنيته المفصلة "أهواك"، لم يحصل على الجنسية المصرية إلا في عام 2006. لكن الجمهور المصري لم يسأله عن أوراقه الثبوتية لا قبلها ولا بعدها. فقد نجح "الكابُّو" في طلاء البيت الموسيقي المصري بالكامل بتصوراته الموسيقية على مدار عقود.