قبل ساعات من طرح "ابتدينا"، كانت الإثارة قد وصلت إلى ذروتها، والتساؤلات تتردد في الأذهان: ما الذي سيقدمه الهضبة هذه المرة؟ ما الذي سيهديه للرعيل الأول من عشاقه؟ وما الذي سيفاجئ به الجيل الجديد من معجيبه؟
الإجابة جاءت داخل عدد لا بأس به من أغنيات الألبوم، الذي حمل مساحة كبيرة من التجريب في الأشكال الموسيقية؛ تجريب يفسر كثرة عدد أغاني الألبوم (15 أغنية)، في سابقة هي الأولى في مسيرة الهضبة.
فور أن ننتهي من سماع "ابتدينا"، ندرك أن عمرو يقدم لنا ثلاث باقات أساسية تخاطب شرائح مختلفة من جمهوره، وترسم ملامح مشروعه الجديد مع شركة سوني ميوزك.
الباقة الأولى هي باقة التجديد والتجريب، وتعكس تأثرًا واضحًا بالموسيقى الإلكترونية الراقصة، وخاصة موسيقى المنتج الموسيقي الألماني آدم بورت. وقد ظهرت هذه بوضوح في أغنيات "يلا"، "دايما فاكر"، "بابا"، "خبر أبيض"، و"إشارات".
الباقة الثانية تقدم جنرا البوب بتنويعاتها المحببة للهضبة، بين الجيبسي واللاتين والروك، وتعد عنوانًا مهمًا في مسيرته، ومنها أغنيات "خطفوني"، "ابتدينا"، "ماليش بديل"، "إرجعلها"، "شايف قمر"، و"حبيبتي ملاك".
وأخيرا، تأتي الباقة الكلاسيكية ذات الهوية الشرقية، وتظهر في أغاني "يا بخته"، "هلونهم"، "ما تقلقش"، و"قفلتي اللعبة".
باقة التجديد وتأثير الإلكترونيك دانس
في صيف 2024 قدم عمرو دياب حفلًا مع الدي جي العالمي آدم بورت في منتجع مراسي بمصر، وبعدها قدما سويًا حفلًا ضخمًا في أبو ظبي. ظهر عمرو في مقاطع متداولة وقد بدا عليه الانسجام مع مقطوعات بورت، إلا أن الأمر لم يقف عند حدود الإعجاب بل كانت تلك الموسيقى ملهمة للهضبة في تجربته الحالية.
بورت منتج موسيقي ألماني، وأحد أبرز الأسماء في مجال الموسيقى الإلكترونية، وله إسهامات بارزة في تيارات موسيقية مثل الأفرو هاوس. من أشهر تراكاته "Move" الذي صدر العام الماضي وحقق نجاحًا ساحقًا. ومن هذا التراك تحديدًا يمكن الربط بين تجربة الهضبة الجديدة وموسيقى بورت، خاصة في أغنية "دايمًا فاكر" من كلمات تامر حسين صاحب العدد الأكبر من الأغاني بين شعراء الألبوم بخمس أغنيات، ولحن شادي حسن، وتوزيع أحمد ابراهيم.
في هذه الأغنية اعتمد التوزيع الموسيقي على إيقاع متأثر بالأفرو بيت، حيث البايس الهادىء والإيقاع البسيط. وطعَّمها بكوردات الجيتار الإسباني لتمنح المستمع احساس موسيقى الـ "تشيل".
في أغنية "يلا" التي يشاركه غناءها ابنه عبد الله؛ ينظم الموزع الموسيقي أحمد إبراهيم البيت الأساسي للأغنية متأثرًا بالإيقاعات الإفريقية. لكنه يفتتحها بإيقاع بصوت البركشنز من نفس تفعيلة إيقاعات الدفوف التي قدمها في "نور العين" قبل 29 عامًا، وكأنه يمنح تجاربه الحديثة روحًا من هويته ونجاحاته السابقة.
أما الأغنية الأقوى من حيث الإيقاع فهي "بابا" التي كتبها ملاك عادل ولحنها محمد يحيى صاحب الرصيد الأكبر في الألبوم بخمس ألحان، ووزعها عادل حقي في لون يمزج بين بيت إلكتروني منتظم على طول الأغنية تصحبه سامبلز تجسد روح الفولكلور بوضوح في أصوات الطبول والمزمار.
ذكَّرنا الشاعر ملاك عادل في عنوان الأغنية "بابا" بالتراث التونسي، وتحديدًا أغنية "سيدي منصور"، وقدم مفردات تحمل روح الفولكلور في مقاطع "رمش خَطّاف والسحر أصناف/ وأنا قلبي يتخاف عليه يا بابا"، واعتمد على بعض المفردات الفصيحة مثل "أزال" و"اغتال" و "كالماس".
قبل طرح الألبوم بعدة أشهر قال لي أحد صناع العمل أن عمرو يريد تقديم ألبوم يحاكي الأشكال الموسيقية العالمية في مستهل تعاونه مع سوني، وذلك لأهداف تسويقية وطموحات مشتركة تجاه ترويج الألبوم دوليًا. ولعل ذلك يفسر لنا اختياره أن يفتتح الألبوم بصوت ابنته جنا دياب في أغنية "خطفوني". فهي المرة الأولى التي يفتتح فيها ألبومه بصوت آخر، وبكلمات إنجليزية. صحيح أن الأغنية نفسها تمثل تطويرًا لإيقاع المقسوم اليوناني الذي اشتهر به، لكنه منحها صبغة عالمية عندما أضاف لها مقطع راب بصوت الرابر بدر الرملي، ليذكر المستمعين بأغنية "حبيبي ولا على باله" الحاصلة على "جائزة الموسيقى العالمية" عام 2001.
خير ختام لهذه الباقة وللألبوم كان أغنية "إشارات"، الأطول بين أقرانها (6 دقائق). فيها، يقدم عمرو مع الموزع أسامة الهندي ما يشبه مقطوعة موسيقية تجمع بين الديب هاوس، وأصوات الوتريات الصينية، وتعكس تأثرًا واضحًا من موسيقى فريق الدي جي اللاتيني باكس (تولوم) PAAX (Tulum) في تراك "Walk in". وقد وضع أيمن بهجت قمر كلمات للمقطوعة تتسم بدرجة من الغموض وتنسجم مع هذه الموسيقى التأملية.
تنويعات البوب الديابيَّة
على مدار مسيرته، قدم عمرو دياب الموسيقى اللاتينية، وارتبطت تلك عادة باسم الملحن عمرو مصطفى، الذي يقدم هذه المرة موسيقى الجيبسي في أغنية "ابتدينا" بلحن من مقامي الحجاز والكرد. واستمرت الحالة اللاتينية في أغنية "شايف قمر" من قالب الفلامنكو الإسباني بأرتام جيتارات هادئة للموزع شريف فهمي، لكن بكلمات أكثر جرأة لمحمد القاياتي: "بس إنت حبيبي ماتتسبش وتتاكل أكل".
لم يغفل عمرو دياب طرح الموضوعات العاطفية الرقيقة في هذه الباقة، فاستعاد مع الشاعر بهاء الدين محمد روح تعاوناتهما القديمة في أغنية "ارجعلها" التي لحنها عمرو بنفسه ووزعها أسامة الهندي في قالب أقرب إلى السوفت روك. أغنية بدت كرسالة صريحة تطالب الحبيب بالعودة إلى حبيبته قبل أن تتجاوزه.
لكنه مثلما حذر الحبيب من فقدان حبيبته، يعود ليذكّرها بحضوره في أغنية "ماليش بديل" من كلمات تامر حسين -صاحب أكبر رصيد مع عمرو دياب بخمس وسبعين أغنية- التي جاء توزيعها من قالب اللاتين بالاد بروح أغاني مارك أنتوني القديمة.
كلاسيكيات الهضبة واللعب على المقسوم!
حافظ عمرو كعادته على الأشكال الكلاسيكية في مشروعه. صحيح أن مساحتها تقلّصت بعض الشيء، لكنها ظلت حاضرة كرافد مهم في كل ألبوماته، سواء على المستوى الموسيقي أو الشعري.
هكذا، ظهرت الأغنية الاجتماعية بتوقيع الشاعر أيمن بهجت قمر الذي كتب "هلوِّنهم" الموجهة لرفاقه الغدارين: "هكتب ليسته بأسامي الناس اللي أذوني/ ولقوني وقت أمّا عازوني/ اللي أنا لحظة ما احتاجت لهم/ أول ناس في حياتي رازوني"، وصاحبها لحن تسعينياتي لوليد سعد، بينما قدم الموزع أحمد ابراهيم تصورًا نوبيًّا بإيقاعات الدفوف، ذكَّرنا بأغنية "وهيا عاملة إيه دلوقت؟".
وواصل عمرو كلاسيكياته على أنغام المقسوم بتوقيع الملحن والكاتب المتفرد عزيز الشافعي في أغنية "ماتقلقش". لحن دسم من مقام الكرد، وكلمات ترسم صورة "العوض" متمثلًا في حبيب جديد قادم ليداوي جراح الماضي. وتكرر المقسوم أيضًا في أغنية "يا بخته" من ألحان الشافعي، حيث وقَّعت منه عدلي القيعي اسمها كأول "شاعرة" في ألبومات عمرو دياب.
وجه آخر كشفه عمرو دياب المعروف لدى المقربين بهواه الكلثومي، حيث صنع مزيجًا مبهجًا في أغنية "قفِّلتي اللعبة" بلحن شرقي بحت لمحمد يحيى، بينما أظهر الموزع وسام عبد المنعم الحالة الكلثومية بفاصل من الوتريات مستوحى من الفاصل الموسيقي لبليغ حمدي في أغنية "ألف ليلة وليلة".
المفارقة أن هذه الكلاسيكية الموسيقية تصدَّرتها كلمات الشاعر الغنائي الشاب مصطفى حدوتة صاحب النجاحات الكبيرة، الذي دخل عالم الهضبة بأغنية "يا قمر" في الألبوم الماضي، وعاد مجددًا بمفرداته المهرجاناتية في "قفلتي اللعبة" وهو يصف حضور الحبيبة الطاغي قائلًا: "خدتي من الوقت الساعات/ وخدتي من العين نِنّها"، أو يغازلها بجرأة فيقول "عجباكي اللعبة ما بالراحة قلبنا مش لعبة".
"ابتدينا" استمرار لتجارب عمرو دياب في تجديد الأغنية المصرية ومحاكاة للترندات العالمية. ألبوم يعكس رغبته في مخاطبة الأجيال الجديدة بجرأة من دون أن يتجاهل رغبات جمهوره القديم.