ما الذي نقصده فعليًا عندما نقول إن فنانًا ما قد "انطلق إلى العالمية"؟
هل يعني هذا أن يجوب أوروبا على حسابه الخاص، ليغني غالبًا أمام جمهور من الجاليات العربية؟ أم يعني أن يقف تحت الأضواء في مهرجان كوتشيلا، أو لولابالوزا، أو في "قاعة رويال ألبرت هول" في لندن، ليغني بالعربية أمام جمهور يتحدث بلغات مختلفة؟ لقد فعلها العديد من النجوم العرب في السابق، مثل محمد عبده في لندن، وإليسا على مسارح دولية، لكن لسنوات ظلت كلمة "عالمي" حكرًا على كبار النجوم في مشهد البوب دون غيره.
العديد من الفنانين العرب حققوا انتشارًا عالميًا. عمرو دياب، مثلًا، ترجمت بعض من أشهر أغانيه إلى عدة لغات، ما جعله واحدًا من أكثر الفنانين العرب الذين أُعيد غناء أعمالهم في العالم. ولدينا أيضًا نانسي عجرم، التي تحقق شهرة في إندونيسيا لا تتجاوزها إلا شهرتها في العالم العربي. غير أن هذا الاتجاه ظل محدودًا للغاية.
في أيامنا هذه، أصبحت الحفلات والجولات تُنظَّم من قبل جهات عملاقة، مثل "كيمي" Keme، و"لايف نيشن" Live Nation، سمحت لفرق وفنانين مثل كايروكي، وويجز، وتووليت، والشامي بالانطلاق في جولات عالمية بوتيرة أعلى بكثير من أي وقت مضى. الآن، صرنا في حقبة جديدة لجولات الموسيقى العربية، تتوغل فيها موسيقانا في الأسواق العالمية بصورة أعمق، ونشاط أكبر.
مفهوم "العالمية" نفسه تغير. لم يعد الأمر يقتصر على "الخروج إلى ما وراء الحدود"، بل بات يعني "الاختراق". اختراق المهرجانات الكبرى، والمسارح الدولية الشهيرة، والقوائم الموسيقية العالمية، والتعاونات التي تمزج بين الثقافات وتضع الموسيقى العربية كتفًا بكتف مع الأصوات المهيمنة على السوق العالمية. الآن، أصبحنا نشهد جيلًا أصغر سنًا، بعضه من أبناء الجاليات العربية في الخارج، يحملون الموسيقى العربية إلى مسارح عالمية، إلى جانب فنانين يعيشون في العالم العربي، وتُنظَّم لهم حفات كبرى في المهرجانات الدولية.
غير أن المهرجانات ليست سوى جزء من القصة، إذ أصبحت قوائم الاستماع لا تقل أهمية عن مبيعات التذاكر. وقد سجلت الإصدارات المغناة باللغة العربية ظهورًا نادرًا في التصنيفات العالمية وقوائم التشغيل الأكثر انتشارًا عبر القارات الست. كما أن التعاونات بين الفنانين العرب والعالميين أصبحت تُنتج هيتات عابرة للثقافات، قادرة على الانتشار بصورة أسرع وبلوغ أراضٍ أبعد من أي وقت مضى.
والأرقام تؤكد ذلك؛ فقد كشف تقرير Loud and Clear Egypt، الصادر هذا العام عن سبوتيفاي، أن اللغة العربية واحدة من أسرع اللغات نموًا على المنصة، إلى جانب اليونانية والتيلوغو (إحدى اللغات الهندية) والتركية والبولندية. لقد ازداد بحث المستمعين من أوروبا وأمريكا عن الأغاني العربية، وصاروا يدرجونها ضمن قوائم استماع الأغاني العالمية. هذا الازدهار في البث الرقمي انعكس أيضًا على مشهد الأداء الحي، حيث أصبح الفنانون العرب يحجزون أماكنهم في بعض من أبرز المهرجانات الموسيقية على سطح الأرض.
كوتشيلّا: حضور عربي متنامي
لطالما كان "مسرح الصحراء"، ثاني أكبر مسرح في مهرجان كوتشيلا، ساحة اختبار حقيقية لطموحات الموسيقى العربية على المستوى العالمي. في عام 2022، أصبحت المنتجة الموسيقية سما عبد الهادي أول فنانة عربية تؤدي في كوتشيلّا، حيث اصطحبت موسيقاها التكنو المميزة وحضورها السياسي المميز إلى خيمة المهرجان المخصصة للموسيقى الإلكترونية.
بعدها بعامين، في 2023، صنعت إليانا التاريخ بتقديم أول عرض كامل باللغة العربية في المهرجان، احتفاءً باللغة والإرث الثقافي. وفي 2024، تسلم الرابر سانت ليفانت الراية، مازجًا العربية بالفرنسية والإنكليزية، ومؤكدًا على هويته الفلسطينية.
ثم جاء محمد رمضان بنقلة أخرى. هذه المرة خرج فنان ليغلق الدائرة بين الهامش الموسيقي العربي والتيار العالمي السائد، بمزيجه الخاص من موسيقى البوب والهيب هوب والمهرجانات المصرية، ومعها إطلالة مثيرة للجدل على المسرح الرئيسي للمهرجان.
من الجولات الإقليمية إلى المسارح العالمية
تروي حجوزات الحفلات العالمية قصتها الخاصة. فقد جابت فرقة كايروكي، فرقة الروك القاهرية المحبوبة، مسارح أوروبية كاملة العدد، بينما اصطحب تامر عاشور ألبومه الجديد في جولة عالمية مطلع العام، ليصل إلى جماهير خارج حدود الإقليم.
وفي الأثناء، يستعد ويجز لجولة جديدة في أوروبا وأمريكا الشمالية بألبومه الجديد، بينما تستعد روبي ورامي صبري لحفلات في باريس في وقت لاحق من العام.
كذلك واصلت إليانا بثبات توسيع نطاق حضورها على المسارح العالمية، إذ شاركت كعرض افتتاحي في جولة فريق كولدبلاي العالمية المستمرة حتى الآن، فغنت في استادات في عدة دول آسيوية، وقدمت أعمالها الفنية العربية-اللاتينية لجماهير بعيدة جدًا عن الشرق الأوسط وأمريكا الشمالية.
أما بالنسبة للفنانين المخضرمين، فالحجوزات تتحدث عن نفسها. فقد أعاد ظهور نانسي عجرم في قاعة "رويال ألبرت هول" التاريخية التأكيد على شعبيتها العالمية -لم تكن المرة الأولى لها، بل عودة إلى مسرح عالمي ما زال يرحب بها. وفي نوفمبر المقبل، وبانتظار تحسن حالتها الصحية، تستعد أنغام للغناء لأول مرة في القاعة نفسها، التي تعد من أعرق مسارح العالم.
يواكب ذلك تنوّع أوسع في الأصوات العربية واندماج أكبر بين الثقافات، وهو ما يفسّر كيف استطاع فنانون عرب من مختلف الجنرات اجتذاب جماهير في شتى أنحاء العالم. ولا يقتصر الأمر على الجيل الأكبر سنًا- فالفنانون الشبان يقدمون موسيقى جديدة، راسمين منعطفًا جديدًا في مسار الصناعة.
إنجازات القوائم واختراق حاجز اللغة
أصبحت قوائم الاستماع لا تقل أهمية عن مبيعات التذاكر. وقد دخل ألبوم عمرو دياب مؤخرًا إلى قائمة سبوتيفاي العالمية للألبومات، ما يمثل إنجازًا لافتًا لإصدار باللغة العربية. كما نجح الفنان السعودي مشعل تمر في اختراق قائمة Viral 50 على سبوتيفاي في المكسيك، والإكوادور، وبيرو، ليثبت أن البوب العربي قادر على الوصول والتأثير في بلدان لا تتحدث العربية.
هذه ليست حالات استثنائية، بل مؤشرات على تحوّل أوسع. فموقع العربية كلغة من أسرع اللغات نموًا على سبوتيفاي يعكس ثقافة استماع باتت تتجاوز الحدود أكثر يومًا بعد يوم.
تعاونات عالمية
التعاون الجيد هو القادر على تسريع الانتشار العالمي للفنان. هذا العام، تعاون ديستانكت مع فرينش مونتانا في عمل عابر للقارات يجمع بين الهيب هوب والأفرو. في الأثناء، قدم ويجز تعاونًا مع الفنان الفرنسي تايك، بعملٍ يمزج الألحان العربية مع إيقاعات الأفرو. أما عمرو دياب، فقد شارك مع آدم بورت، الدي جي والمنتج الموسيقي الألماني، في تجربة بروح الموسيقى الإلكترونية ظهر أثرها في العديد من حفلات عمرو في مصر والإمارات. ورغم أنهما لم يصدرا بعد عملًا رسميًا يجمع بينهما، نستطيع أن نسمع تأثير التعاون في ألبوم عمرو دياب الأخير، "ابتدينا"، وخاصة في تراكات مثل "يلّا" و"دايما فاكر".
بالمثل، وجد تراك شاف وأحمد سعد، "يا مَن هواه"، طريقه إلى قائمة عروض الدي جي العالمي بلاك كوفي. كما التحقت المغنية الكويتية آية بالموجة، متعاونة مع المنتج العالمي فانكو في الهيت الصيفي "أحلى ليلة أحلى ناس"، وهو تراك فيوجن أشعل حلبات الرقص من الخليج إلى أوروبا. وقد انتشرت لقطة لترافيس سكوت وهو يرقص عليه الأغنية في أحد ملاهي مدينة ماربيلا الأسبانية.
الأرقام وراء القصة "تقرير الموسيقى العالمية لعام 2025"، الصادر عن الاتحاد الدولي لصناعة التسجيلات الصوتية (IFPI)، توَّج منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كأسرع أسواق الموسيقى نموًا في العالم، بنسبة ارتفاع بلغت 22.8% في عام 2024. مع ذلك، لا تزال حصة هذه السوق ضئيلة، لا تتجاوز 0.5% من الإيرادات العالمية للموسيقى المسجلة –في تذكير أن الحضور والانتشار لا يعنيان الهيمنة.
الإمكانات هائلة، لكن وفقًا لقراءة المدير العام لبيلبورد عربية رامي زيدان في مقاله، فإن حجم العمل المطلوب لا يزال، هو الآخر، هائلًا.
التكريم على منصات عالمية
إطلاق جوائز بيلبورد عربية للموسيقى، العام الماضي، مثَّل وصول أول حفل جوائز قائم على البيانات إلى المنطقة، وإرساء سابقة جديدة في معايير التكريم داخل الصناعة. قبل ذلك، تم تكريم شيرين عبد الوهاب من قبل بيلبورد الأمريكية، ومنحها جائزة القوة العالمية "Global Force" خلال حفل "النساء في الموسيقى"، وفي العام الجاري كُرِّمت إليسا في الحفل نفسه.
بين الاحتفاء والتحديات من كوتشيلّا إلى جولة كولدبلاي مع إليانا، ومن إنجازات القوائم العالمية إلى حجوزات رويال ألبرت هول، تُرسِّخ الموسيقى العربية مكانتها في المشهد الموسيقي العالمي. هذه اللحظات الذهبية ليست مجرد محطات عابرة، بل هي موطئ قدم. والتحدي الآن هو تحويل هذه اللحظات الاستثنائية إلى حضور دائم، بحيث لا تكتفي الموسيقى العربية بزيارة المسارح العالمية من حين لآخر، بل تصبح جزءًا أصيلًا منها.
* مقال ضمن سلسلة "العام الذهبي للأغنية" التي تتتبع نشاط المشهد الموسيقي الاستثنائي للعام 2025