لم يبدأ عام 2025 بإشارات واضحة على أنه سيكون عامًا مختلفًا للموسيقى في العالم العربي. بضعة ألبومات معلنة لنجوم الصف الأول مع بداية السنة لم تكن أمرًا نادرًا. لكن مع حلول الصيف، بدأت الإصدارات تتوالى بتواتر سريع، ومعها بدأنا نشهد تعاونات مثيرة، وتجارب جديدة جمعت بين جنرات مختلفة، وازدهارًا غير مسبوق في الحفلات الحية والمهرجانات. ومع كل ذلك، ظهرت شواهد على استمرار انتشار الموسيقى العربية خارج حدود الإقليم.
كل ذلك جعلنا نجزم بأن 2025 سينتهي بكونه عامًا استثنائيًا للموسيقى في العالم العربي.
فبعد سنوات ركود أحدثت فجوة في حجم وكثافة الإنتاج، خاصة في جنرا البوب، لأسباب سياسية بشكل أساسي، وبعد جائحة كورونا وما صاحبها من تباعد اجتماعي ضرب الصناعة الموسيقية في صميمها، إذ حرمها من الحفلات الحية، مصدر الكسب الأساسي للغالبية العظمى من الفنانين، جاء عام 2025 ليمثل ذروة التعافي للصناعة، وربما نقطة انطلاق لمرحلة جديدة.
هذا المقال هو الأول من سلسلة تحاول إلقاء الضوء على هذا العام الاستثنائي، ورصد العوامل التي الرئيسية وراء هذا النجاح الذي نرشحه للاستمرار حتى نهاية العام، ونتمنى امتداده لأعوام كثيرة قادمة.
عام الوفرة: ألبومات وهيتات بالجملة من عمرو دياب إلى أصالة وتووليت
العامان الماضيان كانا ضعيفين على مستوى الإنتاج، خاصة في جنرا البوب، التي تحتل النصيب الأكبر من كعكة صناعة الموسيقى. لم نشهد الكثير من المشاريع المتكاملة، أو الألبومات، سواء التجميعية أو المفاهيمية، بل اكتفى أغلب الفنانين بهيتات متفرقة.
أما العام الحالي، فمثَّل قفزة حقيقية في الإنتاج، خاصة مع حلول الصيف. كان الأمر أشبه بكرة جليد يزداد حجمها يومًا بعد يوم. تضاعف عدد الإصدارات مرات ومرات، حتى تحول الأمر إلى ظاهرة. فنانون كانت لديهم مشاريع مؤجلة سارعوا بإطلاقها لركوب الموجة. فنانون آخرون لم تكن لديهم مشاريع تشجعوا وسارعوا للحاق بالركب.
شهدنا ألبومات للعديد من نجوم الصف الأول في البوب العربي مثل عمرو دياب وأصالة وتامر حسني وأحمد سعد ونانسي عجرم، وإصدارات فردية مميزة من فضل شاكر وآدم وناصيف زيتون، ناهيك عن التعاونات العديدة.
لا نقول إن الكم أهم من الكيف. لكن الوفرة عامل شديد الأهمية في الصناعات الفنية فهي تساعد على تطوير الصناعة، وتوسيع السوق؛ تُرسِّخ التنوع، وتُرضي مختلف الأذواق، وتدفع لزيادة التعاون، وتخلق منافسة تفيد جميع الأطراف. باختصار؛ الوفرة تنعش الصناعة والجمهور معًا.
المزج بين الجنرات وتغير المشهد الموسيقي
بين الأعوام 2017-2022، بدا أن اهتمام الجمهور بجنرا البوب قد تراجع. بدأ الاهتمام يتركز على جنرات أخرى، خصوصًا الهيب هوب والإندي، مع تقدّم عشرات المواهب الشابة لتغير شكل الموسيقى العربية بالمطلق.
السين المصري أحدث "قلبان" بتهجينه لجنرا الهيب هوب مع العناصر المحلية، وإفادته من الموسيقى والإيقاعات الشعبية، خصوصًا المهرجانات التي حازت شعبية كاسحة في العقد الثاني من الألفية. سمعنا ذلك في تجارب لويجز ومروان موسى ومروان بابلو وعفروتو وغيرهم الكثيرين، إلى جانب منتجين موسيقيين مثل وزة منتصر ومولوتوف والوايلي.
بالمثل، كان المشهد في المغرب العربي يتطور على نحو متسارع، ويجرَِّب في أساليب الإنتاج الموسيقي، ويتقدم بخطوات واسعة في الرؤية البصرية، ويغزو المساحات العامة والمهرجانات. حتى في السعودية والسودان، شهدنا بذرة أولى تطورت إلى مشاريع شديدة الخصوصية، مع أسماء مثل مؤيد النفيعي ودافن شي وآخرين.
من ناحية أخرى استفادت تجارب الإندي الشابة على امتداد العالم العربي من خمول أغاني البوب التقليدية، فانتشرت أكثر ظاهرة الـ "Bedroom Artist" أو الفنان الذي يصنع موسيقاه من غرفته بأقل إمكانيات إنتاجية، فيكتب ويلحن أو ينتج الموسيقى بنفسه وينشرها على الإنترنت بنفسه، مستفيدين كذلك من صعود تأثير تيك توك خلال جائحة كورونا لبناء قاعدة جماهيرية من الجمهور الأصغر سنًا.
هكذا، تجاوز العشرات من هؤلاء الفنانين حدود غرفهم ووجدوا الطريق للجمهور، مع أسماء مثل بيغ سام وإليانا والأخرس وسيلاوي وسانت ليفانت، وحتى البدايات الأولى للشامي. كل اسم من هؤلاء قدم هيتات تجاوزت المئة مليون استماع على الأقل، دون أن يكونوا قد صعدوا على مسرح في حياتهم، ما ترك الصناعة الموسيقية في حالة ارتباك تجاه هذا النموذج الجديد.
مع الوصول للعام 2025، تخمرت جميع هذه التجارب، وبدأت تتداخل بشكل انسيابي وأصيل مع البوب التقليدي بدون تهجين، حتى وصلنا إلى تطور طبيعي يصعب معه فصل الجنرات عن بعضها، أو النظر إليها ضمن حدود صارمة. سمعنا ألبومين متتاليين من تووليت بأغاني بوب ذكرتنا بالسنوات الذهبية لعمرو دياب. تشارك عفروتو ومروان موسى الغناء مع أحمد سعد ضمن ألبومه الجديد، فيما دخل تامر حسني في عمق السين مع كريم أسامة والوايلي، بعدما قدّم أغنية دبكة مع الشامي. ديستانكت أشرك محمد رمضان في ألبومه الأحدث، وناصيف زيتون قدّم ثلاثة تعاونات متتالية مع فنانين في شمال أفريقيا.
من فضل شاكر إلى آمال ماهر: عام عودة الكبار إلى الساحة بأعمال جديدة
من بين عوامل ازدهار المشهد هذا العام، كانت "العودة" أيضًا عنوانًا عريضًا.
الفنان فضل شاكر، الذي أصدر أغاني متباعدة في السنوات الخمس الماضية حققت انتشارًا محدودًا، عاد بقوة هذا العام رغم عدم انتهاء أزمته القانونية في لبنان، والتي يختبئ بسببها في مخيم "عين الحلوة" بعيداً عن قبضة السلطات. منذ فبراير الماضي اقتحم سباق الأغاني بأكثر من خمسة هيتات متتالية. جاءت عودته بصحبة أسماء جديدة لملحنين وموزعين وشعراء شباب، ووصل إلى صدارة قائمة بيلبورد عربية الرئيسية هوت 100 بأغنيتين مختلفتين في الأشهر الماضية هما "أحلى رسمة" و"كيفك ع فراقي" مع ابنه محمد شاكر، وهو إنجاز نادر في ذاته.
كذلك سجل العديد من الفنانين عودتهم بمشاريع طويلة بعد سنوات من الغياب، سواءً غياب عن ساحة الإصدارات، مثل الفنانة آمال ماهر التي عادت مع ألبوم من عشر أغاني جديدة بعد طول ترقب من جمهورها؛ أو الانقطاع عن عالم الألبومات، كالنجم حسين الجسمي الذي قرر الانضمام لموجة الإصدارات رغم مرور 14 عامًا على آخر ألبوم طويل له.
عام ذهبي للحفلات والمهرجانات من المحيط إلى الخليج
بعد موسم المهرجانات والحفلات التي تشهدها دول الخليج عادةً في أشهر الشتاء، من موسم الرياض إلى حفلات القرية العالمية في دبي، جاء الصيف ليشهد انفجارًا في بقية بلدان العالم العربي.
بدأ هذا الموسم الصيفي من الرباط في المغرب، مع انطلاقة مهرجان موازين في نهاية يونيو، مع عشرات الأسماء من نجوم الصف الأول في البوب، والمزيد من الحفلات المعلنة لنجوم الراب والأغنية الشعبية من شمال أفريقيا. وفيما كانت النقاشات تدور حول الأعداد الهائلة التي حضرت لسماع شيرين عبد الوهاب في ختام المهرجان، كانت التقارير وصلت بالفعل عن تقديم الرابر إل غراندي طوطو لأضخم حفل لرابر في تاريخ المهرجان مع تقديرات -غير مؤكدة من المنظمين- بحضور تجاوز 400 ألف متفرج.
أما لبنان الذي شهد في صيف العام 2024 إلغاء معظم حفلاته وأحداثه الفنية المعلنة بفعل التهديدات الأمنية والأوضاع السياسية، فقد شهد في صيف 2025 انتعاشة خاصة. من مهرجان أعياد بيروت الذي اختتمته إليسا، إلى مهرجان إهدنيات الذي شهد ليالي مميزة مع الشامي وعبير نعمة علاوة على حفل للقيصر كاظم الساهر تم تمديده إلى ليلتين متتاليتين مع نفاذ التذاكر بسرعة. ولم ينته الموسم بعد، إذ سيتجه عمرو دياب إلى بيروت بنهاية أغسطس الحالي، فيما ستغني أصالة هناك في الأيام القادمة، بعد غياب أكثر من عشر سنوات عن لبنان.
وفيما استمرت حفلات الساحل الشمالي ومهرجان العلمين في مصر بحصد الشعبية الضخمة نفسها التي حققتها في السنوات الماضية، شهدنا كذلك المزيد من الحفلات الجماهيرية ضمن مهرجان قرطاج في تونس، ومهرجان جرش في الأردن، وغيرها من مهرجانات أصغر نسبيًا بنت سمعتها عبر نسخ متتالية طوال السنوات الماضية.
حتى حفلات الزفاف كانت فرصة لتسليط الضوء على بعض الفنانين وأغانيهم.
حضور الفنان عاصي الحلاني ليحيي حفل زفاف المؤثرة نارين عمارة (نارين بيوتي) أعاد أغانيه إلى الذاكرة، وعلى رأسها "بحبك وبغار" التي تحولت لترند بداية هذا الصيف، وسمح بدخول عاصي لأول مرة إلى قائمة بيلبورد عربية 100 فنان. الأمر ذاته تكرر بعدها مع الفنان ملحم زين الذي أحيا زفاف شيرين عمارة، الأخت الثانية من العائلة نفسها، بالتزامن مع عودته لإصدار ألبوم بعد سنوات طويلة من الانقطاع. فيما حضر عشرات الفنانين الآخرين كضيوف/ مؤدين في حفلات زفاف ضخمة، لتنتشر مقاطعهم على السوشال ميديا، كغناء نانسي عجرم وإليسا وغيرهما في زفاف نجل مصمم الأزياء إيلي صعب، أو غناء هيفاء وهبي وإليسا في زفاف المؤثرة يومي خوري، أو تشارك أصالة وأحمد سعد الأداء في زفاف لأصدقاء لهما.
حتى الحدث الأكثر مأسوية هذا العام، المتمثل في وفاة زياد الرحباني، كان له جانب إيجابي. كثيرون، خاصة من الأجيال الجديدة، لم يتعرفوا على الموسيقار الكبير إلا بسبب الضجة التي صاحبت وفاته، فعادت العشرات من أغانيه، وأغاني السيدة فيروز إلى قوائم الاستماع، وسط موسم شديد الكثافة.
ماذا يعني كل هذا للصناعة الموسيقية؟
قد نتفق جميعًا أن "الحركة بركة"، وأن كثافة الإصدارات والحفلات والأداءات الحية تعني انتعاشةً من نوع ما. لكن الأثر الحقيقي لا يحدث إذا انتهى الزخم هنا.
من بين مئات الأعمال التي صدرت في الأشهر الماضية، تجارب قليلة فقط هي التي ستبقى في الذاكرة. وإذا لم تتحول التجارب الناجحة إلى دروس في عالم الموسيقى، تدفع الآخرين للتفكير والإبداع بشكل متجدد، فقد ينتهي كل هذا إلى أصوات في الفضاء بلا صدى. في سيناريو مثالي، ستكون إصدارات هذا العام حجر الأساس الذي يستند إليه الموسيقيون الحقيقيون ليشيدوا عليه تجارب قادمة، تستفيد وتتطور وتنمو.
كما أن جهود الموسيقيين، التي شهدناها مؤخرًا، يجب أن تقابَل بجهود إضافية من العاملين في الصناعة الموسيقية من منتجين ومنشّطين ومنظمين ومدراء أعمال، والمبدعين القيمين على تطوير أرشيف الفنانين، الذين تقع عليهم مسؤولية نقل الحالة الإبداعية إلى حيز عملي، يسمح بالاستفادة والتربح والكسب المادي، الذي سيسمح -هو وحده- باستمرار عجلة هذا النشاط.
"استثنائية" العام 2025، تمنحنا فرصة نادرة، إما لكسر القوالب التقليدية في الصناعة الموسيقية العربية والتفكير بإبداع أكبر وإعادة التوجيه نحو آفاق جديدة، وإما أن يكون مجرد "عام جيد" ينقضي ولا نعلم إن كان يتكرر في أي وقت قريبًا.