منذ ظهوره الأول، بدا الذكاء الاصطناعي وكأنه الوعد القادم لتغيير شكل الإنتاج الفني. ومع الوقت، بدأت أدواته تشق طريقها إلى صناعة الموسيقى العربية، لا سيما في الفيديو كليبات. لكن هذا التوسع السريع لم يُقابَل دائمًا بتطوّر جمالي أو تعبيري موازٍ، بل أثار سلسلة من التساؤلات حول جدوى استخدام التقنية: هل تُستعمل بوصفها خيارًا فنّيًا واعيًا؟ أم أنها مجرد حل اقتصادي ذكي؟
من الإندي إلى المشهد التجاري
أولى التجارب البصرية باستخدام الذكاء الاصطناعي جاءت من خارج السوق التجاري التقليدي، مع كليب "ارتوازي" لفرقة آخر زفير عام 2022. كانت التجربة بسيطة حتى أننا لا نقرأ عليها اسم مخرج، لكنها قدّمت تصورًا مختلفًا لكيفية تطويع الذكاء الاصطناعي لصناعة تشكيلات مكانية متغيرة تضيف بعدًا جماليًا جديدًا، وتبشّر بإمكانيات أوسع.
لكن الذكاء الاصطناعي لم يبقَ حبيس التجريب في مشهد الإندي طويلًا. ففي أغسطس 2023، استخدم محمد حماقي أدوات الذكاء الاصطناعي في كليب "حبيت المقابلة"، من إخراج يوسف حماد، ليمهد لتجربة مشهدية تنزلق بين الواقع والخيال. ورغم أن الكليب لم يحقق انسجامًا كاملًا بين التقنية ومحتوى الأغنية، إلا أنه يُعدّ لحظة تحوّل، إذ نقل الذكاء الاصطناعي من الهامش إلى واجهة الإنتاج الموسيقي الجماهيري.
لاحقًا، في يوليو من العام نفسه، طرح يوكي كليب "حياتي ديما" من إخراج يعقوب المهنا، مستخدمًا أدوات الذكاء الاصطناعي في توليد المشاهد البصرية والألوان والمؤثرات الفنية. نقرأ في خانة وصف الفيديو كليب على يوتيوب أنه أول كليب عربي يُنتج بالكامل بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو أمر غير دقيق. مع ذلك، فهو يمثل نقلة مهمة في تطور تقنيات الـ AI في الكليبات العربية، ففيه تمكن المخرج يعقوب المهنا من إنتاج كليب متكامل بشخصيات وأماكن ومشاهد متكاملة.
الكبار يدخلون اللعبة
مع حلول صيف 2025، انطلقت موجة من الكليبات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي. راشد الماجد انضم إلى هذه الموجة مع أغنية "أنا استسلمت"، من إخراج إيهاب غيث، كأول عمل له يُنتج بالكامل رقميًا، وبدون أي تصوير واقعي. لكن الحقيقة أن الكليب لم يستغل إمكانيات الذكاء الـAI لتقديم رؤية جديدة، بل بدا وكأنه استبدل الممثلين بأبطال رقميين، من دون أي إضافة حقيقية.
وفي السياق ذاته، قدّم عاصي الحلاني كليب "أشتكي لله"، من إخراج عبد الفتاح إسماعيل، حيث بدمج بين التصوير الواقعي والمؤثرات الاصطناعية، وظهر عاصي وكأنه بطل خارق في فيلم من أفلام مارفل. لكن محاولته لخلق عوالم متخيلة كانت من باب التزيين البصري، بدون توظيف درامي أو سردي متماسك.
توفير أو رؤية جمالية؟
ثم هناك نوع آخر من الكليبات يدمج اللقطات الواقعية بمشاهد الذكاء الاصطناعي، مثل أغنية نوال الزغبي "يا مشاعر"، التي تنتقل من لقطات لها مصورة في استديو، إلى مناظر طبيعية مبتدعة. أو كليب "ترقيص" لراغب علامة؛ حيث تم تصويره هو بشكل واقعي، بينما وُلدت الجموع الراقصة من خلفه عبر أدوات الذكاء الاصطناعي. في هذه التجارب بدا أن الميل للتوفير في تكلفة الكليب هو الغاية الوحيدة من استخدام التقنية.
كل هذه التجارب تترك التساؤل مفتوحًا: هل يُستخدم الذكاء الاصطناعي في الكليبات العربية اليوم كخيار فني له أبعاده الجمالية، أم أنه يُوظَّف أساسًا لتقليل التكلفة وتجاوز بعض التعقيدات الإنتاجية؟ هذا التساؤل يفرض نفسه مع النتائج المتواضعة، التي لم تظهر تغيّرًا ملموسًا في طبيعة الصورة أو تطورًا في لغة الإخراج. حضور معظم هذه الكليبات يترك شعورًا بالانزعاج، إذ تبدو بلا روح، وبلا إحساس إنساني حقيقي. حتى الآن، لم نقابل أي كليب منتَج بالذكاء الاصطناعي يحفزك أن تعيد مشاهدته.
مع ذلك، فدخول الأسماء الكبرى إلى ساحة التجريب يفتح الباب إلى المزيد من التطور، ولعلنا نرى قريبًا جدًا كليبات عربية إبداعية، تصيغ صورًا موسيقية أكثر جرأة وابتكارًا.