عاش زياد الرحباني كل حياته لا يشبه أحدًا، ولا يشبهه أحد. ولد في كنف المدرسة الرحبانية، لكنه اختار منذ نعومة أظفاره أن يعزف خارج السرب. لم يكن مشروع نجم، بل مشروع صدمة. صدمة فنية، فكرية، وشخصية لا تزال تتردد أصداؤها في وجدان كل من سمعه أو شاهده أو قرأه. بين السخرية والوجع، بين النقد والموسيقى، وبين صوته المتهكم وصرخة البيانو، صنع زياد لنفسه مكانة لا تُقارن.
في هذا المقال، نُسلّط الضوء على أبرز وجوه هذه الشخصية الإشكالية والمُلهمة، فنستعرض زياد الشاعر، والمسرحي، والموسيقي، والمغني، والناقد، والمناضل، ونتوقّف عند حضوره اللافت في المقابلات، حيث كان دائمًا ما يقول أكثر مما يُقال، ويفاجئ أكثر مما يُتوقّع.
زياد الشاعر
رغم أن الشعر لم يكن الواجهة الأبرز في مسيرة زياد الرحباني، إلا أن حضوره الشعري يتسرّب في كل ما كتبه وقاله. بدأ زياد الرحباني بكتابة النصوص الشعرية في سنّ المراهقة، ونُسبت إليه قصائد مبكّرة جمعت بمجموعة "صديقي الله"، عبّرت عن تأملات ميتافيزيقية وإنسانية مبكرة. لكنه لم يطرق أبواب دور النشر التقليدية بعد ذلك، بل دمج الشعر في مسرحه وأغانيه، حيث نجد العبارات الشعرية المبطّنة بالسخرية والمرارة، كأنما يصوغ الشعر ليتسلل خفيةً إلى لا وعي الجمهور.
زياد المسرحي
منذ بداياته، اختار زياد المسرح منصة للصدام لا للعرض فقط. في عام 1973، كتب أولى مسرحياته "سهرية"، التي اعتُبرت نواة مشروعه المسرحي المستقل. لكن التحوّل الأهم جاء في "نزل السرور"(1974)، التي دشّنت مسيرته في المسرح السياسي الاجتماعي، حيث اختلطت الكوميديا السوداء بالواقع اللبناني المتفجّر. علمًا أنه في هذه المرحلة لم يكن قد تجاوز الـ 18 عامًا.
خلال الحرب اللبنانية الأهلية تطورت مسرحياته بشكل واضح وصارت تلامس الواقع المعقد ببراعة أكبر عبر مسرحيات "بالنسبة لبكرا شو" و"فيلم أميركي طويل" و"شي فاشل"، التي تمرّد بها على مسرح عائلته، الرحابنة، وبدا ثوريًا على كل شيء، حتى على جذوره.
لم تكن هذه المسرحيات عروضًا فنية فحسب، بل وثائق حيّة لزمن الحرب والانقسام، يختلط فيها البوح بالشتيمة والحكمة بالنكتة. لم يستخدم زياد المسرح كواجهة ترفيهية، بل كأداة تفكيك وتمزيق لما هو زائف. وأبطاله دائمًا من الهامش: حارس ليلي، موظف فاشل، مغنٍ عاطل أو رجل مكسور. عبرهم، كتب السيرة اللبنانية الجماعية كما لم يكتبها أحد.
زياد الموسيقي
في عالم الموسيقى، كان زياد ثوريًا أيضًا. لم يتمرد على إرث عائلته الفني وحسب، بل ابتكر أسلوبًا خاصًا به، ارتبط اصطلاحيًا باسم "الجاز الشرقي"؛ بسبب الروح والنغمات الشرقية التي تتسلل بين النوطات الكلاسيكية وارتجالية الجاز، ولكن زياد الرحباني طعن بالتسمية أحيانًا، من باب أنه طوّر في الجاز ولم يعرّبه، وأن الموسيقى لا تعرف جنسيات أو انتماء للغرب والشرق.
تتالت الألبومات الأولى الخاصة بزياد منذ السبعينيات، وتبنى فيها حالة من العمل الجماعي، مؤسسًا لتعاونات متعددة مع نجوم الغناء والمسرح، كان جوزيف صقر الأبرز بينها، إلى جانب مروان محفوظ وسلمى مصفي وغيرهم الكثير، ممن تشاركوا معه بتقديم ألبومات لا تمحى من الذاكرة.
لكن التجربة الأكثر تأثيرًا وصمودًا بالوجدان اجماهيري، هي تجربته مع والدته، فيروز، التي انتشلها من تقاليد الرحابنة الرومانسية الصارمة إلى عالم موسيقي أكثر واقعية وسخرية. فصوت فيروز المقترن بأغاني الضيعة اللبنانية اليوتوبية كما رسمها الأخوين الرحباني، هبط مع زياد إلى إيقاع الحياة اليومية، والنصوص المتقاطعة مع قضايا الإنسان العادي.
زياد المغني
لم يكن زياد الرحباني يُقدم نفسه كمغني، وربما كان الغناء في أسفل سلم اهتماماته الفنية.
لكن رغم ذلك، فإن صوته بقي حاضرًا في ذاكرتنا، من خلال الأغاني التي قدمها ببعض أعماله المسرحية مثل "بالنسبة لبكرا شو؟" و"فيلم أميركي طويل"، حيث جاء الغناء امتدادًا طبيعيًا للشخصيات التي جسّدها. كما سمعنا صوته في المقاطع التي كان يؤديها على هامش الأغاني التي يلحنها مع سلمى ولطيفة وحتى فيروز، حيث كان كان صوته يظهر كراوٍ تعبيريّ، يعكس فلسفة الأغنية ولا يزخرفها.
بالإضافة إلى ذلك قدم بعض الأغاني بصوته، الذي كان يظهر ساخرًا، أحيانًا متهكمًا، وأحيانًا شجيًا، وقد يكون الأداء الأكثر رومانسية له بأغنية "بلا ولا شي".