الكثير من السيناريوهات كانت تدور في رأسي خلال الطريق إلى جنازة زياد الرحباني. من بيروت إلى بلدة بكفيا حيث سيدفن زياد، وطوال أكثر من 40 دقيقة، كانت ذاكرتي تستعرض كل المشاهد والمقابلات والاقتباسات التي نحفظها عنه، تتخللها العديد والعديد من علامات البيانو التي تُعزف أوتوماتيكيًا في ذهني مع كل منعطف. هل أقف في حضرة زياد الرحباني أخيرًا؟ هل جاءت هذه الوقفة متأخرةً قليلًا؟
****
أخشى كثيرًا أن أدخل في مقارنات ونقاشات مع محبي زياد المتعصبين. أمرهم غريب فعلًا. يود كل واحد منهم إقناعك أنه المستمع الأكثر إخلاصًا للرجل. يتلو عليك أسطرًا ومنولوجات من مسرحياته، يستشهد بأقوال له يوظفها في الحياة اليومية. أعتقد أنني شخصيًا لم أكن من هذا النوع، لم أكبر في بيت يشغل أغاني زياد بشكل منتظم، لا أحفظ مسرحياته عن ظهر قلب، ولم أحضر مقابلاته وأستمع لكلامه كثيرًا.
لكنني حين اكتشفت موسيقى زياد في سنوات المراهقة، شعرت أنني قد اكتشفت صوت التمرد، صوتًا مختلفًا عن أي شي سمعته من قبل، فيه من السخرية والغضب والعمق ما بدا أصيلًا على نحو مستفز، فكيف يكون أي فنان مبتكرًا لدرجة تشعرني أنا كمستمعة بالتميز والاختلاف لمجرد أني بدأت أفهم موسيقاه ووصلاته الارتجالية والمغزى خلف بساطة كلماته.
صنع زياد الرحباني لي ولسواي، لسنوات المراهقة ولعقود لاحقة من العمر، موسيقى تصل للجموع بسهولة ودونما نخبوية أو تعقيد، لكنها في الوقت نفسه أعمق من أن يطويها النسيان، أو يمسها الملل.
لكن العثور على زياد في سن صغير تسبب لي بتعاسة مبكرة، فكيف السبيل لأن أجد طريقي إلى إحدى حفلاته الحية؟ لم يشفع لي بكاء الساعات الطويلة المتواصلة في العام 2008 في أن أنضم للجموع التي حضرت حفله في قلعة دمشق. لعنت في سري طويلًا مركزية العاصمة. لماذا يكتفي الفنانون بالذهاب إلى دمشق ولا يأتون إلينا في حلب؟ ربما لأن زياد نفسه لم يتوقع حجم الجمهور الذي استقبله في دمشق في أول حفل له هناك على الإطلاق. بقي يستدير عن البيانو وينظر إليهم متفاجئًا وقد صرخوا بكلمات أغانيه فعلت أصواتهم فوق صوت الآلات والموسيقى.
****
حين وصلت إلى جنازة زياد.. فوجئت بالعديد من الشباب السوريين، معظمهم قدم من دمشق بمجرد أن سمع نبدأ وفاته. ألقوا نظرة وداع على النعش، وبدأوا يطوفون في المكان في ترقب. وقفوا في المكان الذي ازدحم بجمهور زياد الوفي المتعصب الذين حضروا منذ الصباح الباكر مع النعش من شارع الحمراء في بيروت إلى البلدة البعيدة. تميزهم عن الإعلاميين والفنانين والشخصيات العامة عبر عيونهم التي غارت وكأنهم لم يتوقفوا عن البكاء منذ يومين.
داخل الكنيسة، حيث المعزون يدخلون ويخرجون متأملين النعش المغلق بهيبة كبيرة، وجدت نفسي وإلى يساري كارمن لبس -التي كانت حبيبة زياد وشريكة حياته طوال 15 عامًا- تجلس وسط الناس وتتبادل معهم كلمات قليلة. ثم التفت يمينًا فلمحت وجه الموسيقي خالد الهبر. لولا الشيخوخة على وجوه الجميع، لبدا المشهد سرياليًا خارجًا من الثمانينيات أو التسعينيات، حين كان زياد.. و"الرفاق" من حوله. حين جاء دوري لألقي تحية الوداع على النعش المغلق داخل الكنيسة، ارتطم نظري في اللحظة الأخيرة بإكليل ورود بيضاء إلى يمينه، اخترقته عبارة: "إلى ابني الحبيب.. فيروز". هل كانت جارة القمر هنا فعلًا؟
طوال الطريق إلى هنا كنت أتفحص السوشال ميديا وأرى صورًا تعلن ظهورها في أولى ساعات العزاء المحددة، أول ظهور علني لها منذ سنوات طويلة. ثم غابت الإشارة عن هاتفي، ولم أعلم إن كانت قد بقيت أم غادرت وسط الحشود. كانت الإشاعات قد أحاطت بها وبوضعها الصحي طوال يومين، تحدثت الأنباء عن انهيار فيروز الأم التي فقدت في السابق اثنين من أبنائها في عمر أصغر. لكنها ظهرت فجأة بحزم، وكأن العدسات التي تحاشتها طوال أكثر من عشر سنوات، لم تكن لتكون يومًا حاجزًا بينها وبين زياد.
في قاعة العزاء أمام الكنيسة وقفت أتأمل الوجوه، لمحت الفنانين، وأولاد عمومة زياد، أسامة وغدي وغسان. ثم تجمد نظري عند زاوية القاعة، وتيبست قدماي على الأرض. كانت فيروز أمامي.
****
حين صدر ألبوم "إيه في أمل" في 2010، كنت أعتقد أنه لم يعد هناك مجال لأن تصدر أغاني أيقونية جديدة لفيروز وهي في السادسة والسبعين من عمرها. توقع استند إلى المنطق الطبيعي لمدى قدرة الإنسان وحنجرته وحباله الصوتية. لم أشكك بقدرة زياد على صناعة أغاني مبدعة لفيروز، لكنني شككت في قدرته على تقديم فيروز في مساحات جديدة، هي التي تطلبت سنوات من الإقناع كلما أطلعها زياد على أغنية خرجت عن المألوف بالنسبة لها.
بثت الإذاعات المحلية السورية الألبوم بلا توقف حينها، تتالت الأغاني على مسمعي في صباحات كان من المفترض خلالها أنني أستعد لفحص الثانوية العامة. لكنني سرحت مع الموسيقى الجديدة بعيدًا عن أي واقع. فكرت طويلًا بمعنى الموهبة، وبكمية العناد والإصرار والاجتهاد والأصالة التي تطلبها الموهبة -إن وجدت- لتحيا. لم تكن حينها ثورات الربيع العربي قد بدأت، ولم يتوقع أحد أن حربًا ستندلع خلال أشهر في سوريا وتستمر لأكثر من عقد. مع ذلك، فإن افتتاحية الأغنية الرئيسية "إيه في أمل"، والنقلة بين الموسيقى وبين صوت فيروز الذي أدى الكلمات بلا انفعالات شعورية، عيشني حينها ولشهور طويلة تالية، بشعور أن مصابًا هائلًا قادم في الطريق. لكن حتى حين كانت الأغنية العبقرية نذيرًا لشؤم تحقق فعلًا لاحقًا في حياتي وفي تاريخ المنطقة التي نعيش فيها بأكملها، لم يمنع ذلك أن تبقى أغنيتي المفضلة على الإطلاق. بدت كنبوءة من زياد، ورسالة استباقية تطمئن الجموع قبل العاصفة بأن "في أمل إيه في أمل".
بعد صدور الألبوم، قدمت فيروز الحفل الجماهيري الأخير في مسيرتها -حتى الآن- في البيال في بيروت. غنت الأغاني الجديدة وأخرى قديمة. حملت الدف، وأدت أمام 7 آلاف شخص. جزء غير بسيط من هذا الحضور كان قد وصل من سوريا إلى بيروت خصيصًا ليحضرها. مر 15 عامًا، وما زلت أسمع لليوم حكايات أصدقاء لي عن كيف سافروا مع أهلهم إلى لبنان، وقادوا سياراتهم فقط ليحضروا الحفل ويعودوا في الليلة نفسها. أنا أنا فاستسلمت لواقع أني لم أكن من المحظوظين الذين اصطحبهم أهلهم عبر الحدود لسماع فيروز، لكني كنت متأكدةً بشكل حاسم أنني لن أحظى بفرصة ثانية لأسمع فيروز تغني في حفل حي.
أما زياد ولسنوات تالية، فكان له حفلات في قلب بيروت يؤدي فيها موسيقى حية ضمن تجمعات صغيرة. جمع من حوله عازفين شباب استوعبوا الجاز وبرعوا في أدائه، فكان بإمكانهم تنفيذ رؤيته ببراعة افتخر هو فيها، فتوقف مرارًا ليقول أن العازفين المحليين قادرون على تقديم موسيقى معقد بشكل أفضل من عازفين أجانب كثر، وأن علينا أن نتوقف عن تمجيد الموسيقيين والموسيقى القادمة من الغرب. اعتقدت في تلك الحقبة أن لي حظ أكبر في حضور زياد، خاصة وأنني بدأت حينها أتردد إلى بيروت بوتيرة أعلى. لكن التوقيت لم يكن حليفي ولا مرة.
****
في الساعة الأخيرة قبل غياب شمس يوم الاثنين 28 يوليو، وحين حان وقت نقل النعش إلى مثواه الأخير، وجدت نفسي أندفع تلقائيًا بين الناس لأتقدم نحو النعش المرفوع على الأكتاف، والمرشوش بالورود. البعض من حولي غرق بالبكاء، والبعض حاولوا ترديد بعض كلمات أغاني زياد وهم يسيرون في تشييعه. بقيت أتلفت في جميع الاتجاهات من حولي، وأتصفح النعش ثم الوجوه من حولي. لربما كانت أول لحظة أستوعب فيها أن زياد الرحباني رحل عن عالمنا فعلًا، وأنه لن يعود ليقدم حفلًا أخيرًا، أو لحنًا واحدًا إضافيًا، أو لقاءً ساخرًا آخر.
بعد أن انفضت الجنازة، توقفنا عند مقهى في أول قرية بكفيا لشرب الماء قبل العودة إلى بيروت. اقترب منا رجل كبير يعمل في القهوة، وتحدث معنا باللغة الإنجليزية وبلكنة أمريكية واضحة. سألنا عن طلبنا، ثم أخبرنا أنه أمريكي ولا يعلم من الشخص المتوفى، وحاول الاستفهام منا: لم أصبحت القرية الصغيرة تعج بالناس فجأة؟ أخبرناه أنه فنان كبير، ومن عائلة فنية كبيرة. فطلب منا أن نقارنه بفنان غربي يعرفه ليستوعب بشكل أفضل من هو الفقيد. ترددنا قليلًا.. قلنا له لربما كان بحجم وأثر فرقة بينك فلويد مجتمعةً، ولكن مع روك أقل وجاز أكثر. فهز برأسه متفهمًا. نظرت إليه وقلت: "لربما أكبر حتى من ذلك.." فرمقني بنظرة استياء وغادر، وكأنه شعر أني أسخر منه أو أبالغ. لكني لم أفعل، لم أكن أحاول أن أكون طريفةً حتى.. كيف أشرح له أن زياد الرحباني كان أكبر من أية مقارنات؟