* في عالمنا العربي وفرة من نجمات ونجوم البوب الذين شقوا طريقهم نحو النجاحات والانتشار الجماهيري وقد بدأوا مشوارهم منذ ثمانينيات القرن الماضي، وربما قبلها، وبقيوا حاضرين بقوة خلال أربعة عقود. نجوم أدركوا أن الموسيقى الطربية، على عظمتها، لم تعد معبرة عن الأجيال الجديدة، فسعوا، كل بطريقته، لتشكيل نسخهم الخاصة من البوب بمعناه الواسع، مستلهمين التطورات العالمية، ومضيفين إليها أحيانًا من التراث الموسيقي في بلدانهم.
في هذه السلسلة نحتفي بأسماء من مصر والخليج، ومن بلاد الشام والعراق والمغرب الكبير، ونسترجع مع القارئ مشاهد بارزة في مسيرتهم المهنية.*
***
في أوائل الثمانينيات، لم يكن أحد ليتخيّل أن شابًا بسيطًا قادمًا من مدينة بورسعيد سيغيّر شكل الموسيقى العربية. لكن ما بناه الهضبة من مكانة في العقود الماضية، كان قد بدأه بتجاوز الإصرار والشغف الكبيرين -المسلم بهما- إلى التفكير في تساؤل ثوري: كيف يمكن للأغنية المصرية أن تتجدد؟ كيف تصبح عصرية دون أن تفقد هويتها؟
كان عمرو دياب الشاب يرى في تجربة محمد منير ما يثير فضوله؛ ذلك المزج الجريء بين الجذور النوبية والإيقاعات الغربية. منير كان قد تعاون مع يحيى خليل، في ألبومه الأيقوني "شبابيك"، وهي التجربة التي أثارت خيال عمرو دياب، لبطرق باب يحيى خليل، الذي لم يُبدِ اهتمامًا كافيًا، فيُتابع عمرو دياب بحثه عن المدخل إلى عالم الفن ويجد المنفذ مع الموسيقار هاني شنودة، مؤسس فرقة المصريين التي كانت تسبح عكس التيار السائد.
لا يمكن فهم المكانة التي وصل إليها عمرو دياب في صدارة أغنية البوب العربية دون الغوص بعمق في المراحل التي سبقت التسعينيات والرؤية الرائدة التي قدمها حينها، وفهم الخطوات الأولى لعمرو الشاب التي امتلأت بالبحث والتجريب قبل أن يبني "أسطورة عمرو دياب" التي أصبحها اليوم.
البحث عن الطريق
في ذلك الزمن كانت الأغنية المصرية تُعاني بعد رحيل أساطير الطرب في السبعينيات؛ عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وفريد الأطرش، وظهر العديد من محاولات لاستنساخ التجارب الماضية والبحث عن أصوات تحمل راية الأغنية الطربية، لنشهد تجارب من هذا النوع مع هاني شاكر وعماد عبد الحليم ومحمد ثروت. وظهر بذات الوقت العديد من التجارب التي لا تنظر إلى مستقبل الموسيقى بمنظور رجعي. وهنا التقى عمرو دياب بهاني شنودة، اللذين يتشاركان الأحلام الموسيقية الثورية، فتعاونا بأول ألبومات عمرو دياب،؛ "يا طريق" عام 1983، عندما كان عمرو لا يزال في الثانية والعشرين من عمره. ورغم أن نجاح الألبوم كان متواضعًا، فقد كان الخطوة الرسمية لبدء مسيرة الهضبة.
في العام التالي، عاد عمرو دياب ليُصدر ألبومه الثاني "غني من قلبك"، مستمرًا في محاولاته لتحديد ملامح مشروعه الفني. لم يكن الألبوم نقلة جماهيرية، بل كان خطوة أخرى ضمن رحلة طويلة من التجريب والكفاح، يحاول فيها عمرو دياب أن يصوغ لنفسه صوتًا لا يُشبه أحدًا. الألبوم حمل محاولات واضحة لالتقاط الإحساس الشعبي المصري، من خلال العودة للتراث الموسيقي المصري، ومزجه مع الإيقاعات الغربية التي بدأ جمهور الثمانينيات يعتادها؛ فتضمن الألبوم ثلاثة ألحان من الفولكلور المصري: "أشوف عنيكي" و"بتغني لمين" و"يا خلي"، بالإضافة إلى النغمات والإيقاعات التي تنتمي إلى البيئات المصرية الشعبية. لم تكن المعادلة ناضجة بعد، لكنها كانت تُبنى بصبر.
وحتى وإن لم يحظَ الألبوم بانتشار واسع، فقد مثّل بالنسبة لعمرو دياب مرحلة اكتشاف الذات: كيف يمكن أن تبدو الأغنية المصرية إن وُلدت في زمن الكاسيت وموسيقى الديسكو وأحلام الطبقة المتوسطة الصاعدة. كان "غني من قلبك" تمرينًا صعبًا في مزج الحداثة بالتراث، وربما لم يلفت الأنظار في حينه، لكنه كان لبنة أساسية في بناء الفنان الذي سيُعرف لاحقًا باسم "الهضبة".
العثور على الطريق
ألبومه الثالث "هلا هلا"، الذي صدر عام 1986، مثّل نقلة نوعية في مسار بحث عمرو دياب عن هويته الموسيقية، فلم يعد يفكر في كيفية محاولة المزج ما بين التراث والعناصر الموسيقية المرتبطة بالثقافة المصرية مع تأثيرات الموسيقية الغربية وحسب، بل بات يُفكّر أيضًا في عامل ثالث لا يقل أهمية، وهو كيف يتلقى الجمهور الأغاني ويتفاعل معها. وفي إطار هذا البحث بدأ عمرو دياب مسيرته كملحن، ليُلحّن أول أغنيتين لنفسه، وهما "هلا هلا" و"مية مية".
أغنية "هلا هلا" حملت ملامح أولي لنجاح شعبي واسع؛ إيقاعها السريع، وبنيتها البسيطة، ولكن المبهجة، كانت أقرب للهتاف منها إلى الأغنية. اعتمد عمرو في لحنها على استدعاء النغمات الصعيدية، ولكن هذه المرة من خلال الأورغ، لا الربابة. أعاد تخليق تراث شبع الناس به، لكنهم لم يسمعوه من قبل بهذا الشكل. وكأن الأغنية بُنيت للحفلات منذ لحظتها الأولى: جملتها الرئيسية تؤدى على شكل هتاف، مكون من نداء ورد، يطلق عمرو الشطر الأول منها، وينتظر تجاوب الجوقة أو الجمهور، فتُخلق حالة تفاعل مباشرة لم تكن شائعة كثيرًا وقتها في أغاني البوب المصرية.
هذا الحس التفاعلي في التلحين، والحيوية التي بثّها في الأداء، مثّلت حجر الأساس بتكوين شخصية عمرو دياب الفنية، في طريقه الطويل والصعب للوصول إلى العالمية. حينها بدا واضحًا أن لدى عمرو دياب الكثير ليُقدمه، فهو يعرف كيف يجعل اللحن يرقص مع الكلمات، وكيف يُحوّل الأغنية من حالة استماع إلى حالة مشاركة؛ ليُشعل المسرح بكل مرة يُغني بطاقته الهائلة التي تتفاعل مع طاقة الجمهور.
الانفجار الكبير مع "ميال"
جاء ألبوم "خالصين" عام 1987 ليستكمل رحلة عمرو دياب في البحث والتجريب، في رابع ألبوماته الرسمية، التي يمكن وصفها بلغة اليوم أنها "إندي عربي"؛ حيث كان عمرو دياب لا يتقيد بالقوالب التجارية السائدة وقتها. كان الألبوم بمثابة مساحة آمنة للاستكشاف، بعيدة عن ضغوط السوق، وقريبة من حس فنان يحاول إيجاد نبرته الخاصة. لكنّ التحوّل الحقيقي جاء مع الألبوم الخامس "ميال" في 1988، والذي يمكن اعتباره أول انفجار جماهيري حقيقي في مسيرته؛ أغنية "ميال" لم تكن مجرد هيت، بل كانت أولى أغاني عمرو دياب التي تتخطى حدود مصر ليُصبح نجمًا في مختلف أرجاء العالم العربي. من هنا بدأ التحول: من فنان شاب يجرّب، إلى نجم بوب يعرف كيف يصنع نجاحًا متكررًا. ومع "ميال" بدأت مرحلة جديدة، صار فيها اسم عمرو دياب مرتبطًا تلقائيًا بالألبومات التي تتضمّن أغنية ضاربة واحدة على الأقل، إن لم تكن أكثر.
وبالإضافة لأثر أغنية "ميال" فقد مثّل ألبوم "ميال" نقلة هامة لعمرو دياب على مستوى التعاونات، أبرزها بلا شك بدأ التعاون مع الموزّع الموسيقي حميد الشاعري في أربع أغنيات، الذي كان من أبرز شركائه في رحلته للوصول إلى العالمية، التي تحققت بعد 8 سنوات بـ"نور العين".
ربما لم يكن عمرو دياب يعرف أن ملاحقته لذلك الصوت المختلف ستجعله صوت جيله. لم تكن الرحلة فقط عن الأغاني، بل عن التغيير ذاته، عن أن تسبق زمنك بخطوة وتجعله يلحق بك. في النهاية، لم يصنع عمرو دياب مجده فحسب، بل أعاد رسم خريطة الموسيقى العربية من جديد.