* في عالمنا العربي وفرة من نجمات ونجوم البوب الذين شقوا طريقهم نحو النجاحات والانتشار الجماهيري وقد بدأوا مشوارهم منذ ثمانينيات القرن الماضي، وربما قبلها، وبقيوا حاضرين بقوة خلال أربعة عقود. نجوم أدركوا أن الموسيقى الطربية، على عظمتها، لم تعد معبرة عن الأجيال الجديدة، فسعوا، كل بطريقته، لتشكيل نسخهم الخاصة من البوب بمعناه الواسع، مستلهمين التطورات العالمية، ومضيفين إليها أحيانًا من التراث الموسيقي في بلدانهم.
في هذه السلسلة نحتفي بأسماء من مصر والخليج، ومن بلاد الشام والعراق والمغرب الكبير، ونسترجع مع القارئ مشاهد بارزة في مسيرتهم المهنية.
***
تنطفئ الأضواء. تتعالى الهتافات: "أبو وديع… أبو وديع". يظهر جورج وسوف مجهدا، متكئا على كرسيه وعلى موسيقاه. إنها أولى حفلاته بعد رحيل ابنه وديع عام 2023. وحين يغنى "يا بياعين الهوى"، التي صدرت ضمن ألبوم "كلام الناس" قبل 30 سنة، يتكسّر صوته قليلًا عند المقطع "حبيبي زي القمر / علمني معنى السهر" ويستبدل البيت الثاني بـ "راح بلمح البصر"، وكأنه يرفع حملا ثقيلا، فيمد الجمهور يده ليرفعوه معه. يقول لهم: "راح الغالي، وأنا عم بغنيلكم".
اعتلى جورج وسوف المسرح محملًا بسنوات طويلة من الأفراح والأحزان التي عاشها أمام جمهوره، حتى أصبحت حياته الشخصية جزءًا لا ينفصل عن عروضه الحية، وأصبح المسرح بالنسبة له مساحة للحياة، مهما اشتدّت الخسارات خارج الأضواء.
صوت التسعينيات: مغني الجراح والأفراح
كانت مسيرة جورج وسوف حلقة وصل مهمة بين الطرب الأصيل وموجة البوب الجديدة، حيث استطاع دمج الطرب التقليدي مع تأثيرات عصرية من خلال تقديمه لأسلوب غنائي يجذب جمهورًا واسعًا من مختلف الأجيال، ساعده على ذلك صوت قوي وقدرة رائعة على الانتقال بين المقامات.
بعد أكثر من أربعين عامًا قضاها الوسوف يغني للجراح كما يغني للأفراح، للحب حين يزدهر، وللحياة حين تضيق، للخسارات كما للربح، تحوّل صوته إلى أرشيف شعوري لجيل بأكمله. في لبنان، حيث عاش ومضت سنين عمره، ظل صوته حاضرًا حتى في أحلك الظروف، يؤنس الناس في ليالي الحرب الأهلية الطويلة خلال الثمانينات، ويعدهم بالنسمات القادمة من عند الحبايب.
ومع نهاية الحرب ودخول التسعينيات، بدا وكأنه جاهز للاحتفال بالحياة من جديد. أطلق في تلك الفترة أهم ألبوماته، وكان كل إصدار منها يكاد يتحول إلى مناسبة وطنية للاحتفال. تستقبله التلفزيونات ويشاركه الفنانون احتفاله، مثل سهرة ألبوم "يا ليل العاشقين" سنة 1997 التي حضرها راغب علامة ونجوى كرم ووليد توفيق، وتسمرت البيوت أمام الشاشات لتسمعه يغني "ارضى بالنصيب" و"حد ينسى قلبه".
أن تراه ليس كأن تسمعه
بعد كل ألبوم، كان جورج وسوف ينطلق في جولة واسعة، من كازينو لبنان إلى أكبر مسارح بيروت والعالم العربي والعالم. صار اسمه مرادفًا للعرض المتكامل من صوت وأداء وجمهور لا يهدأ.
في صيف 1994، على مدرّج مهرجان جرش، اعتلى المسرح مرتديًا بدلة بنفسجية، لون الفرح وربما العناد أيضًا. ما إن بدأت نغمات "بتعاتبني على كلمة" حتى انفجر الحضور بالغناء، كأنه جاء ليشاركه ككورال جماعي. في تسجيل الفيديو، يمكن رصد وجوه متحمسة، شباب يقفون فوق مكبرات الصوت يلوّحون بأذرعهم، وتصفيق لا ينتهي بعد كل مقطع.
كان صوته في قمته، مشبعًا بطاقة الشباب وقادرًا على التطريب بحرفية نادرة. اعتمد على ما يُعرف بتقنية صوت الصدر، التي تسمح له بالوصول إلى نغمات عميقة وقوية بدون أن تفقد دفئها. ما جعل أداءه المباشر في الحفلات غالبًا ما يتفوق على تسجيلات الاستوديو. ولهذا، أن تحضر حفلة للوسوف في التسعينيات، لم يكن حدثًا عاديًا، بل تجربة يتباهى بها من عاشها حتى اليوم.
الأداء الحيّ: الحفلات إلى احتفالات جماهيرية
في بداية الألفينات، تعرّض جورج وسوف لوعكة صحية حادة، لكنها بدلًا من أن تبعده عن الساحة، قرّبته أكتر من جمهوره. رفض الوسوف تمامًا فكرة الانقطاع، واستمر في جولاته الغنائية، خاصة أن الحفلات تحولت إلى مساحة أوسع للتفاعل، وصار الجمهور شريكًا حقيقيًا فيها. صار له جيش اسمه الجيش الوسوفي يحضر كل الحفلات مرتديًا تيشيرتات بيضاء عليها صوره، ويرفع صوره في كل مكان وكأنه مرشحًا لرئاسة الكوكب.
ظل جمهوره وفيًا إلى حد يصعب تصديقه، حتى بعد أن تغيّر صوته. سمعنا قصصًا عن أشخاص باعوا ممتلكاتهم فقط ليحضروا له حفلة، وعن معجبين وقفوا لساعات أمام منزله يصرخون باسمه على أمل أن يطلّ ولو للحظة. وعندما يصدر ألبومًا جديدًا، كانت السيارات تتحول إلى إذاعات متنقلة في الأحياء، تبث أغانيه بأعلى صوت، كأنها تعلن عن بيان مهم يجب على الكل سماعه.
وسط كل هذا الولاء لصوته وحضوره، كانت العلاقة بين الوسوف وجمهوره تتطور إلى ما هو أبعد من حفلات تقليدية. يحادث الجمهور كما لو كانوا أصدقاء قدامى، يتبادل معهم المزاح، ويعلّق على أداء فرقته الموسيقية دون تكلّف.
في حفله عام 2004 على مسرح قرطاج، كانت الأجواء حماسية والطاقة في السماء. بدأ الجمهور يغني "كده كفاية" قبل أن يبدأ هو، وكانوا يلقون الدباديب الحمراء عليه من كل مكان. حمل الوسوف أحدها وراح يلاعبه كطفل، يضحك ويهز الدبدوب بيديه. وعندما لم يعجبه أداء الكورال، التفت للجمهور واستهزأ بالأداء وكأنه لا يقبل أن يحادث أحدًا غيرهم.
على المسرح، لم يكن جورج وسوف يلتزم حرفيا بأغانيه، وغالبًا ما يغيَّر شيئا هنا أو هناك انسجاما مع اللحظة، وكأن المسرح بيته الذي يتحكم فيه كيفما يشاء. ومع تقدم السنوات ودخول العشرية الثانية من الألفية، صار يتفاعل أكثر مع الحضور وكأنهم جزء من العرض، يتحاور معهم، يسألهم عن الأغاني التي يرغبون في سماعها، أو حتى يضحك معهم على مواقف طريفة، حتى أسمته الصحافة الموسيقية بـ "الظاهرة الوسوفية".
معك على الحلوة والمرة يا أبو وديع
تعرض الوسوف للمزيد من الوعكات الصحية، التي أضعفت صوته أكثر فأكثر، إلا أنه أبى أن يترك المسرح. في مقابلة مع إسعاد يونس عام 2022، قال: "ربنا خلقني تغني، ومش هوقفه أبدًا، الناس بتقول لازم يعتزل، لا مش هعتزل، كأن حد بيقول للتاني روح موت".
استمر جمهوره في حضور الحفلات -إلى اليوم- حتى وهو يتجنب غناء مقاطع معينة من أغانيه بسبب الإرهاق الذي أصاب صوته مع السنين. يحضرون ليعيشوا معه اللحظة ويشهدوا حضوره. تقبله جمهوره الوفي، وصار "يساعده" في الغناء بعد أن فقد أجزاءً من صوته، وكأنهم يردّون له الجميل ويكافئونه على كل ما وثّقه من مشاعر رافقتهم لسنوات.
وسوف السلطان
قبل أن يبدأ جورج وسوف مسيرته الفنية الخاصة، كان قد اشتهر في فترة الثمانينات بقدرته الاستثنائية على استعادة أغاني أم كلثوم. في بداية العشرينات من عمره، كان أداؤه خاطفًا ومبهرًا، إذ أظهر قدرة نادرة على التقاط المقامات بدقة، والخروج منها لإضفاء لمسات من التعريب على الألحان. كانت تلك الحفلات هي السبب الرئيسي في شهرته، حيث قدم أداءً مبهرًا للأغاني الكلاسيكية، وأصبح أحد أبرز نجوم الطرب في العالم العربي.
اكتسب لقب سلطان الطرب تحديدًا بسبب أدائه في الحفلات. ويعود اللقب إلى فترة الثمانينات، عندما لم يكن في رصيده كل هذه الألبومات. كان النجم عمر الشريف حاضرًا في واحدة من حفلاته في باريس وراح يصرخ "الله يا سلطان … الله يا سلطان". بعدها بفترة قليلة استضافت جورج إحدى القنوات المصرية المحلية، وعلق على اللقب قائلًا "أكيد في سلاطين كثير أكبر مني وأحسن مني".
أخطأ الوسوف فقد أثبتت السنين أنه سلطان الأغنية، سيد المسرح والأداء الحي، والامتداد الطبيعي للأغنية الطربية والنقلة المبدعة التي كان قطاع كبير من جمهور المنطقة متعطشًا لها.