ليست فيروز فقط صوت لبنان، بل أيضًا مرآة للموسيقى العالمية باللغة العربية العربية.
منذ الخمسينيات وحتى اليوم، شكّلت تجربة التعريب في أغاني فيروز جسراً بين الشرق والغرب. من ألحان إسبانية وروسية وكوبية إلى كلاسيكيات موزارت والبوسا نوفا البرازيلية، نسجت فيروز خريطة موسيقية عالمية بصوت عربي خالص. ونقصد هنا بالتعريب: استعارة اللحن كاملًا كما هو، ثم إعادة توزيعه، مع وضع كلمات عربية عليه، أي لا اقتطاع أو اقتباس أو سمبلة.
استلهام الأخوين الرحباني من ألحان حول العالم وإعادة صياغة كلماتها، أمرٌ بات معروفًا، واستكمل مسيرة الاستلهام والتقدير هذه من بعدهما نجلها زياد. وحتى إذا أردنا التوسع، يمكن الإشارة إلى ابنتها ريما الرحباني كذلك في عملها ضمن آخر ألبوم لفيروز، الذي كان كله تعريب لألحان غربية دون استثناء، ودون أي لحن أصلي واحد.
نستعرض في هذه القائمة 8 أمثلة على هذا التعريب من مراحل مختلفة من مسيرة فيروز الطويلة:
لبيروت / كونشيرتو دي أرَانخويز - خواكين رودريغو
الأغنية التي تحولت إلى نشيد عاطفي للمدينة التي نعشقها، كانت بمثابة البلسم الذي أعاد جمع بيروت المقسمة أيام الحرب الأهلية. سجلت فيروز الأغنية وأطلقتها بين العامين 1983 و1984، في ذروة الحرب، بتوزيع نجلها زياد الرحباني، ثم عاد وأدخلها ضمن ألبوم "معرفتي فيك" عام 1987. منذ ذلك الحين، تعود هذه الأغنية إلى مسامع اللبنانيين عند كل كارثة تحل بالبلاد لتواسيهم. صمودها حتى اليوم، أكثر من بعض أغاني فيروز الأخرى عن لبنان، ينبع من الحزن العميق الذي تحمله، الناتج عن اعتراف صريح بالهزيمة. تصف كلمات جوزيف حرب ساحة ما بعد المعركة وتساؤلاتها حول مصير المدينة.
يعود اللحن الأساسي إلى المؤلف الإسباني الكفيف خواكين رودريغو، من مقطوعته كونشيرتو دي أرَانخويز التي تعود للعام 1939، وتحديدًا الحركة الثانية من العمل الموسيقي.
يا أنا يا أنا / السيمفونية رقم 40 - موزارت
القطع الكلاسيكية لم تُكتب يومًا لحمل نصوص غنائية، فقد وُجدت لتكون لغةً للمشاعر، واستكشاف للآلات الموسيقية وقدراتها وتناغمها، دون قيود. ومن هنا ينبع صعوبة الغناء عليها أو ملاءمة الكلمات معها: إيقاعاتها غير المنتظمة، عباراتها الطويلة ودهاليزها المعقدة كلها تصعّب الانسياب الطبيعي للكلمات. علاوة إلى ذلك، معظم الألحان الكلاسيكية تخلو من تكرار المقاطع، ما يجعل تذكر الكلمات والغناء معها أكثر تحديًا.
رغم هذا، نجح الأخوان الرحباني في تحويل الحركة الأولى من سيمفونية موزارت رقم 40 إلى أغنية عربية خالصة، "يا أنا يا أنا"، ضمن مسرحية "ناس من ورق" عام 1972. تبرز الأغنية من بين أغاني المسرحية لكونها اللحن الوحيد الغربي وسط أغانٍ مثل "يا مركب الريح" و"هيلا يا واسع" احتفظت بالروح الشرقية الرحبانية.
تضمّن التكييف تعديلات دقيقة على الإيقاع وتوزيع الآلات وتكرار بعض المقاطع لتتوافق مع الكلمات العربية. وعلى الرغم من التعقيد الأصلي للحن موزارت، جعلت هذه التعديلات الأغنية أكثر انسجامًا مع اللغة العربية وأسهل أداءً غنائيًا. الأخوين رحباني لم يكونا أول من قام بتكييف السيمفونية لتتحمل كلمات غنائية، إذ سبقهما الملحن الهندي ساليل تشودري الذي حول الحركة ذاتها من السيمفونية إلى أغنية من فيلم (تشايا) الذي صدر عام 1961.
كانوا يا حبيبي / Polyushka Polye - ليف كنيبر
أغنية "كانوا يا حبيبي" التي غنتها فيروز في مسرحية لولو عام 1974، تستند إلى لحن روسي شهير يُعرف باسم "بوليوشكا بولي" أي "يا سهل يا حقل"، من تأليف الموسيقار الروسي ليف كنيبر، صدرت عام 1934. كتب فيكتور غوسيف الأغنية كجزء من البروباغندا السوفييتية لتمجيد الجيش الأحمر وجنوده. تعكس كلماتها صور الريف الروسي: الحقول الواسعة، الخيول السريعة، والدبابات، كلها تجسّد فكرة القوة والوحدة واليقظة العسكرية. ومع مرور الوقت، وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، أصبحت الأغنية واحدة من أشهر الأناشيد العسكرية للجيش الأحمر، تُغنى لرفع المعنويات، وتُبث عبر الإذاعات، وتُقدَّم في الحفلات الميدانية للجنود على الجبهات.
ذاع صيت الأغنية عالميًا حتى وصلت إلى الأخوين الرحباني. ورغم أن اللحن العسكري واضح في أصله ولم يتغير، فإن كلمات الرحابنة لا تستلهم منه إلا صورة الخيول والأحصنة. تؤدي فيروز الأغنية وسط لوحة راقصة، يشارك فيها الفنانون برقصة "كوزاك" الروسية، لا تخدم الأغنية سياق المسرحية وحبكتها إلا أنها تخلق مشهدًا بصريًا حيويًا.
نظرية أخرى تقترح أن الأخوين الرحباني لربما استلهما الأغنية من نسختها الفرنسية، وقد كانا أكثر تأثرًا بالموسيقى الفرنسية. حيث قدم المغني الفرنسي آرماند ميسترال نسخة فرنسية من الأغنية بعنوان "Plaine ma plaine".
مرفرف الدلال/ Quizas quizas quizas - أوسفالدو فارّيس
بدأت رحلة فيروز الموسيقية برفقة الأخوين رحباني كرحلة استكشافية في ألوان وألحان مختلفة، ففي مطلع خمسينيات القرن الماضي، أعارت فيروز صوتها لجنرات غربية: التانغو، الرومبا، وأنغام أخرى، قبل أن يستقر الثلاثي على اللون الرحباني المعروف، في نوادرها الأولى مطلع مسيرتها، مثل "مي هل ترقصين"، "تانغو الزنبق"، "قصة الورد"، و"مرفرف الدلال". الأخيرة معرّبة عن الأغنية الكوبية الشهيرة Quizás, Quizás, Quizás لأوسفالدو فارّيس، التي سجلها بوبي كابو عام 1947 وانتشرت عالميًا وتم غنائها في لغات عدة.
في عام 1953، كتب الأخوان الرحباني كلمات الأغنية بالفصحى، محافظين على روح اللحن وأصالته، ولكن بحرية تصرف كاملة في الكلام فحوّلوا الحيرة والغموض في النسخة الأصلية إلى غزل رقيق عند فيروز. لم تكن تلك محاولة التعريب الوحيدة للأغنية، فقدم لاحقًا جان ماري رياشي أغنية "بالعكس" بصوت عبير نعمة ورامي عياش.
بيذكر بالخريف / Les feuilles mortes - جوزيف كوزما
من بين الألوان الموسيقية الغربية المتنوعة، يبرز الجاز كأكثرها قابلية للتطويع وإعادة الصياغة، نظرًا لاعتماده على الارتجال وحرية اللعب باللحن والإيقاع. وقد برع زياد الرحباني طوال مسيرته في هذا اللون، متقنًا التأليف والتلحين والتوزيع، مع مزج أحيانًا بين الجاز والآلات الشرقية.
بعد وفاة عاصي، تحلّت فيروز بالجرأة الكافية لتقديم تجربة موسيقية جديدة برفقة نجلها، من خلال ستة ألبومات غنائية كللتها موسيقى الجاز بشكل واضح وصريح. هذه التجربة أبعدت فيروز عن صورة "الأيقونة" المتزنة لتظهر بصورة حميمية أقرب إلى الناس، مع كلمات محكية مبسطة وسهلة، لكنها لم تفقد عمقها ولا الصور الشعرية التي تميزت بها.
أغنية "بيذكر بالخريف" من ألبوم "ولا كيف" (2002) تمثل نموذجًا مثاليًا لهذه الخلطة السهلة الممتنعة، حيث تحاكي العاطفة الإنسانية مباشرة، وتحافظ على إرث فيروز و"أيقونيتها" بنفس الوقت.
الأصل الفرنسي للأغنية يعود إلى أغنية Les Feuilles Mortes (أي الأوراق الميتة) من تأليف جوزيف كوسما وكلمات الشاعر جاك بريفير. التعريب الذي قام به زياد لم يكن حرفيًا، بل اقتباسًا متحررًا؛ استوحى جوهر الأغنية عن مرور الزمن وذكرى الحبيب وأوراق الخريف، ليقدمها بلهجة لبنانية تحمل لمسة زيادية واضحة، تتجلّى في حرية اللعب باللحن والإيقاع وحتى في مطلع الأغنية "بتذكرك كل ما تجي لتغّيم…"، الذي يمنحها بداية مستقلة تميزها عن اللحن الأصلي.
من رحاب الجاز إلى دفء البوسا نوفا وأغنية "شو بخاف" من ألبوم "ولا كيف". تعود جذور الأغنية إلى Manhã de Carnaval للموسيقار البرازيلي لويز بونفا، التي أُلّفت عام 1959 لفيلم Orfeu Negro (أورفيوس الأسود)، الفيلم الذي كان له الفضل في نشر البوسا نوفا والموسيقى البرازيلية عالميًا.
في النسخة الأصلية، تنبض الكلمات بصور صباح مشرق، وتفيض بمشاعر الحب والحنين للحبيب، بينما في التعريب الذي صاغه زياد، تعبر الكلمات عن مشاعر قلق وأرق وحزن ليليّ، "بيخطرلي آخد حبّة، تَإقدر نام". في جميع تجارب زياد الرحباني في التعريب، نلاحظ أنه لا ينقل النص حرفيًا، لحنًا أو كلامًا، بل يخلق جوًا موسيقيًا يوازي اللحن الأصلي، ويتماشى مع خصوصية صوت فيروز وفرادتها الفنية.
لا والله / LA BAMBA
الأغنية الثالثة من ألبوم "ولا كيف" التي لا تحمل توقيع زياد. أصل اللحن فلكلوري مكسيكي، وذاع صيته بعد فيلم La Bamba عام 1987، وأداء المغني ريتشي فالينز، لتنشهر الأغنية على نطاق واسع بعد ذلك.
زياد، في إعادة تقديمه للحن، اقتبس من النسخة الأصلية فقط لحن الخاتمة، وبنى عليه أغنية "لا والله" كاملةً، ومع ذلك، حرص على الاحتفاظ بالاسم الأصلي للأغنية وذكر مؤلفيها ضمن معلومات الألبوم، كما فعل مع الأغنيتين السابقتين، احترامًا للمصدر والمؤلفين الأصليين.
بيت صغير بكندا / Ma cabane au Canada
في عام 2005، قدمت فيروز أغنية "بيت صغير بكندا" كأغنية منفردة، دون أن تدرج ضمن أي من ألبوماتها، وربما يعود السبب إلى أن الأغنية من تعريب ريما وليس زياد الذي كان في تلك الفترة يشرف على إنتاج وتوزيع وتأليف ألبومات فيروز. ظلت الأغنية حبيسة الرفوف، حتى أصدرت فيروز "ببالي" عام 2017، الذي تولت ريما الإشراف عليه بشكل كامل، لتجد الأغنية بيتًا صغيرًا في الألبوم.
الأصل الموسيقي للأغنية يعود إلى الملحن الفرنسي لولو غاستيه، في أغنية Ma cabane au Canada (أي كوخي في كندا) التي أدتها المطربة لين رينو. في معالجة ريما لهذه الأغنية، نرى أسلوبًا مختلفًا عن التجربة الزيادية في التعريب، فبينما كان زياد يميل إلى التلاعب باللحن والكلمات وتقديم نسخة متحررة من الأصلية تحترم قامة فيروز الفنية، تبقى ريما مخلصة إلى النص الأصلي، محافظة على بنيته ومعانيه بطريقة شبه حرفية، دون أي مغامرة.