يفرض عام 2025 نفسه كأحد أكثر الأعوام نشاطًا في تاريخ الموسيقى العربية الحديثة. من حيث الكم، شهدنا غزارة غير مسبوقة في إصدارات الألبومات والأغاني المنفردة؛ أغاني من مختلف الجنرات الموسيقية العربية من البوب والراب والمهرجانات إلى الموسيقى المستقلة والأغاني الشعبية. كذلك برزت ظاهرة جديدة هذا العام، وهي الارتفاع الكبير في عدد التعاونات بين الفنانين. لم تعد التعاونات أحداثًا موسمية أو محاولات فردية، بل أصبحت مكوّنًا أساسيًا في استراتيجيات الإنتاج والتسويق الفني.
هذا التحوّل لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة تفاعل عدة عوامل: المنافسة الشديدة على المنصات الرقمية، ورغبة الفنانين في الوصول إلى جماهير جديدة، إضافة إلى توسع السوق الموسيقية العربية ونموها السريع، وتزايد الاهتمام العالمي بالمحتوى العربي، ما عزز فرص الانتشار وتوسيع التأثير محليًا وإقليميًا وحتى دوليًا. الأمر الذي انعكس على عمل الفنانين العرب، الذين بدوا أكثر انفتاحًا على التجريب. أصبح الفنان يدرك أن اجتماع جمهورين أو أكثر على عمل واحد يمكن أن يضاعف نسب المشاهدة والاستماع، ويرفع من فرص الانتشار عبر المنصات الرقمية ووسائل الإعلام.
في هذا المقال نرصد أهم سمات تلك التعاونات، وأبرز الأمثلة عليها.
التعاون بين الأجيال المختلفة
مع نهاية عام 2024، كان واضحًا أن الجيل الجديد من الفنانين بمختلف المشاهد الموسيقية قد فرض سيطرته على الساحة العربية. على قوائم بيلبورد عربية، وصل الفنانون الشباب إلى صدارة القوائم من مختلف المشاهد: عايض احتكر صدارة قائمة أعلى 50 أغنية خليجي، كما احتكر الشامي صدارة أعلى 50 أغنية ليفانتين، وتووليت تصدر أعلى 50 أغنية مصري، ولازارو تصدر أعلى 50 أغنية مغاربي، كما تصدرت إليانا قائمة أعلى 50 أغنية إندي. هذا المشهد أرسل إشارة واضحة إلى الأجيال السابقة أن مواقعهم في القمة باتت مهددة، وأن المنافسة مع الأسماء الجديدة أصبحت أمرًا لا مفر منه.
ولعل ألبوم تامر حسني الجديد، "لينا معاد"، خير مثال على التعاونات بين الأجيال، والتي شاهدنا وفرة منها في العام الجاري. في هذا الألبوم تعاون تامر، وهو من جيل الوسط، مع الكينغ "محمد منير" في أغنية "الذوق العالي"، من كلمات تامر حسين وألحان الراحل محمد رحيم. كان التعاون باكورة أعمال منير بعد تعاقده مع شركة روتانا، وكان حدثًا جديدًا على الكينغ، الذي لا يفضل التعاونات مع "النجوم"، إلا في استثناءات محدودة.
لكن الألبوم نفسه شهد تعاونا آخر بين تامر والشامي، والأخير من الجيل الشاب الذي بدأ رحلته قبل أقبل من 3 أعوام، في أغنية "ملكة جمال الكون"، واشترك الفنانان في كتابة كلماتها وتلحينها.
المؤكد أن التعاونات بين الأجيال مفيدة لجميع الأطراف. فمن جهة تجذب جمهورين من جيلين مختلفين لسماع تراك واحد، ومن جهة أخرى تعطي ثقلًا أكبر للفنان الأصغر سنًا، وحيوية أكبر للفنان الأكبر سنًا، وتعطي الفرصة لخلطة موسيقية بروح جديدة.
في حالة تامر والشامي، ربما كان التأثير الأكبر على تامر، حيث دفعت به الأغنية إلى المراتب العشر الأولى في قائمة أعلى 100 فنان لأول مرة منذ إطلاق قوائم بيلبورد عربية في نهاية 2023.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل أن تجربة الشامي مع البوب المصري، الذي كان قد جرّبه بطريقته الخاصة عام 2024 في أغنيته المنفردة "خدني"، جعلت اسمه يكتسب ثقلًا أكبر، وكسرت الحاجز بينه وبين عدد كبير من جمهور جيل الألفية، لاسيما من يعتبرون تامر حسني نجمهم المفضل.
المزج بين الجنرات والتعاونات العابرة للحدود
يمكن القول أن معظم التعاونات الموسيقية في السنوات الماضية كانت تحدث بين فنانين من نفس الجنرا الموسيقية، ومن نفس الجيل الفني غالبًا. ذلك جعل هذه التعاونات تأتي بنتائج متوقعة إلى حد كبير، لأنها كانت تُبنى على القواسم المشتركة بين الفنانين، وتبني سياقًا موسيقيًا على نقاط الالتقاء. لكن إحدى سمات التعاونات الغزيرة في 2025، تمثلت في التجارب الموسيقية التي تجمع بين فنانين من جنرات مختلفة.
ولنأخذ مثلًا التعاون بين سانت ليفانت من مشهد البوب ومروان موسى الذي يعتبر من أبرز أسماء الراب المصري في تراك "كلمنتينا"، والذي سرعان ما تحول لأبرز هيتات العام. سمعنا حينها مروان موسى لأول مرة يغني البوب الصرف. ولربما مهد لتجارب أكثر جرأة له، فسمعناه يغني مع وليد في ديو "مش عادي" على الإيقاعات الشرقية، وانضم مع عفروتو للغناء مع أحمد سعد في "حبيبي ياه ياه".
في تجارب اخرى، تحقق فعليًا مثل "لمّ الشامي على المغربي"، في تراك مثل "يا مسافر" الذي جمع بين ناصيف زيتون من المشهد الشامي، وزهير بهاوي من المغرب، عبر ألحان زهير بهاوي وكلماته مع ميد شريف.
هذا التعاون فتح أفقًا موسيقيًا جديدًا أمام ناصيف ليختبر إيقاعات وبنى صوتية لم تكن مألوفة في سياق البوب ليفانتين. أما زهير، صاحب الشهرة الكبيرة في المغرب، فحصل على فرصة بناء قاعدة جماهيرية في بلاد المشرق التي يمثلها ناصيف.
التعاونات بين فنانين من مشاهد موسيقية مختلفة شكلت مساحة غنية، مكّنت الفنانين من استكشاف الجماليات الموسيقية في الجنرا نفسها، لكن في بلد آخر من البلدان العربية.
في هذا السياق أيضًا، يمكننا العودة إلى التعاون، سالف الذكر، بين تامر حسني والشامي في أغنية "ملكة جمال الكون"، حيث تمكن تامر من الاقتراب من ستايل البوب الشامي، مستكشفًا عناصر مثل الدبكة والإيقاعات الشعبية في المنطقة، ومغنيًا لأول مرة باللهجة الشامية.
تعاونات الأباء والأبناء
لم تكن ظاهرة في 2025، لكنها كانت حدثا استثنائيا؛ أن يتعاون الأب وابنه في تراك واحد.
حدث هذا مع عمرو دياب، الذي تعاون مع ابنيه عبد الله وجنا في أغنيتي "يلا" و"خطفوني" ضمن ألبومه ابتدينا. حيث تنقلت الأسرة في مساحات موسيقية متنوعة. فجاءت مشاركة عبدالله على إيقاعات الهاوس، أما جنا فغنت مع والدها بالإنجليزية في تراك بوب عابر للغات.
على العكس، جاء التعاون بين فضل شاكر وابنه محمد في أغنية "كيفك ع فراقي" أكثر كلاسيكية، إذ حافظ على نفس ستايل البوب الطربي المميز لفضل، وبدا كمحاولة لتوريث هذا الستايل لابنه الذي يشبهه كثيرا في عذوبة الصوت.
اللافت أن اثنتين من الأغاني الثلاث السابقة -وهي "خطفوني" و"كيفك ع فراقي"- نجحتا في تصدر قائمة بيلبورد عربية هوت 100.
كيف لدويتو أن يدفع بعجلة الفن إلى الأمام؟
لربما كان انتعاش الدويتوهات هو ما حدا بالبعض إلى المضي خطوة أخرى باتجاه "التريوهات"، حيث تجتمع ثلاثة أصوات في تراك واحد. حدث هذا مع تراك "حبيبي ياه ياه" الذي جمع أحمد سعد مع عفروتو ومروان موسى. ثم من جديد في أغنية "علاش" التي جمعت الفنانة الشابة بيسان اسماعيل مع الموزع فؤاد جنيد وكاتب الكلمات أمجد جمعة اللذان شاركاها الغناء، مع أن النتيجة لم تكن على قدر التوقعات.
التعاونات في 2025 كانت أكثر من اجتماع فنانين لتقديم أغنية مشتركة في محاولة لصناعة هيت، بل بدت دعوة لاستكشاف أساليب الأخرين والتقاطع معها والتعلم منها. تامر حسني نجح بذلك على وجه الخصوص بأن حاول التقرب من الأسلوب الموسيقي لك فنان تعاون معه، فغنّى باللهجة الشامية وأدى الدبكة مع الشامي، وقدم فلو قربه من الهيب هوب لأول مرة مع كريم أسامة، وغنّى بستايل أرشيف الكينغ منير ومن معجم مفرداته.
لكن مزيدًا من التواصل مع الآخر بات مطلوبًا من مختلف الفنانين اليوم، مع سطوة جيل جديد لا يبالي بنجاحات أرشيف فني صنع قبل ولادتهم، وصعود تجارب أصيلة ضمن الجنرات المختلفة، والانفتاح الذي وصل ذروته على موسيقى العالم، حيث لا تفصلنا سوى بلايلست واحدة على منصة استماع، عن اكتشاف تجارب في أمريكا اللاتينية أو في كوريا أو غيرها.
* مقال ضمن سلسلة "العام الذهبي للأغنية العربية" التي تتتبع نشاط المشهد الموسيقي الاستثنائي للعام 2025