هل انتهى عصر "المهرجان" التقليدي أو المهرجان الـ"الأولد سكول"؟ سؤال أصبح حاضرًا بقوة في المشهد الموسيقي المصري.
فبعد نجاح ساحق للمهرجانات عبر ما يقرب من عشرين عامًا، تسبب هذا النجاح في ارتباك المشهد الموسيقي، ولجأ إليه صناع الجنرات الأخري كمادة خام يمكن تطويعها لتطوير موسيقاهم!
التراب الشعبي يسيطر على السين مشحونًا بإيقاعات المهرجان الصاخبة. والهيب هوب يقترب من محاكاة الفلكلور مدعومًا أيضًا بلمحات واضحة من "المزاج" المهرجاني. وحتى البوب، أدرك نجومه أن صخب المهرجان وإيقاعه "الخشن" هو السبيل لمخاطبة جمهور اليوم، فنزحوا لمحاكاته موسيقيًّا وشعريًا.
وفي وسط كل ذلك، يجدر بنا أن نتساءل: هل ذاب المهرجان التقليدي، "الأولد سكول"، وسط الجنرات الأخرى؟
شعبي وإلكتروني.. دي جيه ونبطشي!
يرجع تاريخ المهرجان في مصر إلى عام 2004، عندما أطلق الثنائي فيجو وفيفتي مهرجان "السلام"، ليقدما شكلًا موسيقيًا يمزج بين الشعبي والإلكترونيك، وبين أداء الدي جيز وتقديم النبطشية (مقدمي فقرات الحفل)، أطلق عليه أبناء الطبقات الشعبية اسم المهرجان. غير أن الانتشار الأكبر لهذا اللون بدأ عام 2011 مع ظهور أوكا وأورتيجا، ثم بزوغ فرقة الدخلاوية السكندرية، التي أطلقت مهرجانًا يحمل اسمها، وهي التجربة التي فتحت الباب لأسماء أخرى أضافت لنفس الجنرا مثل السادات، والمدفعجية.
من بعد هؤلاء انطلقت أسماء أخرى صنعت نجاحات جماهيرية ساحقة للمهرجان وخرجت به إلى شرائح أكبر من المستمعين، مثل حسن شاكوش وعمر كمال وحمو بيكا، وتحديدًا في مهرجان "بنت الجيران" الذي صدر عام 2020 وحقق 689 مليون مشاهدة على موقع يوتيوب فقط.
إلا أن تأثير المهرجان على التجارب الموسيقية الأخرى بدأ يظهر بوضوح مع بداية عام 2014 حيث أطلقت مجموعة من الموسيقيين تجارب شديدة الخصوصية في الموسيقى الإلكترونية التجريبية. ظهر هذا التوجه في تراك "بنحيي البغبغان" للمُنتج الموسيقي موريس لوقا، الذي واصل التجريب، ودفع بموسيقى المهرجان إلى فناني الأندرجراوند.
كان المهرجان هو الحصان الرابح. لكن الكثير من الموسيقيين لم يستطيعوا السير في الطريق إلى نهايته مازجين جنراتهم بالمهرجان، فكان الحل هو السير إلى منتصف الطريق؛ إلى الشعبي، الذي ازداد رواجًا واتسعت رقعة مستمعيه بظهور المهرجانات. هكذا، رأينا انتقال هذا التأثير "المهرجاني/ الشعبي" إلى فرق مستقلة مثل كايروكي، التي أضافت خطًا انتاجيًا شعبيًا في ألبوماتها، فقدموا "الكيف" مع طارق الشيخ، التي تتحدث عن الممنوعات -وهو موضوع مطروح دائمًا في أغاني المهرجانات- بجانب "يا أبيض يا أسود"، و"الباكا باكا" وعدة أغاني تعكس فهمًا للذائقة الجماهيرية الجديدة ذات الإنحيازات الشعبية الواضحة.
استفزاز نجوم البوب
النجاح الساحق لمهرجان "بنت الجيران" وملابسات استغلاله للحن أغنية محمد حماقي"حاجة مستخبية" استفز مطربي البوب، ودفعهم لإعادة قراءة المشهد، بحثًا عن إجابة لسؤال مهم هو : كيف لمهرجان أن يحقق نجاحًا أكبر من الأغنية الأصلية المقتبس منها؟!
وكالعادة التقط عمرو دياب زمام المبادرة بتقديم أغاني تحاكي صناعة المهرجان على مستوى الكلمة واللحن والتوزيع، ولكن بتقنيات أكثر جودة، فقدم أغنية "إنت الحظ" التي تعتبر مهرجانا "ديابي" الصنع.
لقد كان جديدًا وجريئًا على عمرو دياب أن يقول " ياللي مروَّقها علينا" أو "واللي يجزّ يجزّ". وتلتها أغاني مثل "قدام مرايتها" و"سهران"، ومن قبلها "يوم تلات" التي قال فيها: "فتفتوا الفتافيت وفتنوني". حتى أنه قدم أغنية تحمل اسم "مهرجان".
كلها مفردات مهرجانية خالصة على مستوى الكلمة، وهو ما شجع بقية نجوم البوب لتبني الفكرة. فانطلق حماقي بسلسلة من أغاني تحاكي المهرجان مثل "أدرينالين" التي وضح تأثرها بكلمات المهرجان في مقاطع مثل "لمست إيدي عملت كونتاكت/ الكهربا مسكت في الشرايين"، وواصل تلك التجربة في أغاني تنتمي لإيقاع المقسوم ولكنه مُطعَّم بروح المهرجان في أغنيات مثل "يا نسيم" و "زيها مين" و"لمون نعناع" التي يقول فيها: "لو هو باع احنا نجيبله لمون نعناع!". حتى حمزة نمرة صاحب مشروع الإندي الخالص، قرّر محاكاة التجربة بطريقته في أغاني إلكترو شعبي مثل "معلش" و"استعيذوا" و "مش مهم".
والظاهر أن نجوم البوب تعاملوا مع المهرجان باعتباره إيقاع مقسوم أكثر صخبًا، وكلمات مباشرة وجريئة. وتكرار هذا خلق زخمًا، فلم تعد هناك مساحة فارقة بين أغنية البوب والمهرجان والشعبي، فتشبع الجمهور بشكل موسيقي واحد مكثف خلال السنوات الأخيرة.
صعود التراب على أكتاف المهرجان
لم يكن نجوم البوب وحدهم من بحثوا عن شفرة البقاء بقوة دفع المهرجان، بل جاء صناع الهيب هوب والراب أيضًا ليصيغوا جنرا جديدة من وحيه. وهنا فتِّش عن اسم مولوتوف الذي يملك براءة هذا الاختراع.
أحمد أشرف الشهير بـ مولوتوف مُنتج موسيقي شاب، وهو حفيد الروائي المصري الكبير خيري شلبي، إلا أن جينات العائلة لم تقُده إلى عالم الأدب بقدر شغفه نحو تطوير شكل الموسيقى المصرية الحديثة عندما صاغ تجربة موجة الراب الجديدة والتي باتت تعرف بالتراب الشعبي، التي تمزج بين الموسيقى الإلكترونية وإيقاع المهرجان وسرعة الإلقاء الشعري.
في 2018 تعاون مولوتوف مع علاء فيفتي (الأب الروحي للمهرجان) في تراك يحمل اسم "بلعب أساسي". التجربة في حد ذاتها كانت تطويرًا لتجربة سابقة أطلقها الرباعي سادات وفيفتي وعمرو حاحا وأمين في تراك بعنوان "الرابنجية".
وفي عام 2019 أصدر مولوتوف ألبوم باسم "حدائق 303" نسبة إلى حي حدائق حلوان الذي نشأ فيه. هذه التجربة كانت أكثر وضوحًا في مزج البيت الإلكتروني والمهرجان. ثم قدم مع مروان بابلو تراك "الجميزة" الذي يعد أوضح محاولات مزج الشعبي والراب.
بعدها تعاون مولوتوف مع ويجز في تراك "دورك جاي" الذي أصبح أكبر هيتاته في السين، معلنًا عن دخول الراب المصري حقبة جديدة اعتمد فيها على إيقاع المهرجان.
عصام صاصا رمزًا للصمود
هل صمت أبناء المهرجان أمام إهدار دمه بين الجنرات الأخرى؟ في الواقع لا. غير أن عددًا كبيرًا منهم خرج من عباءة المهرجان إلى عالم الغناء الشعبي تحت وطأة ضغوط بيروقراطية من نقابة الموسيقيين. فعلى سبيل المثال قرر عمر كمال تقديم نفسه كمطرب شعبي كلاسيكي يغني في الأفراح والملاهي الليلية. في حين اتجه مسلم إلى تقديم ديو مع رضا البحراوي أحد أعمدة الغناء الشعبي الآن. بينما اتجه عنبة لتقديم مزيج بين البوب والمهرجان والراب وقدم تريو مع أحمد سعد ودبل زوكش في أغنية "الملوك".
ولكن وسط هذا المشهد ظهر اسم عصام صاصا الذي قدم نفسه للجمهور عام 2019 بمهرجان "قالك هتعيش هتشوف"، وحقق 110 مليون مشاهدة على موقع يوتيوب، ليعلن تمسكه بالشكل التقليدي للمهرجان مصبوغًا ببعض ملامح البوب الشعبي.
في لحظة تاهت فيها جنرا المهرجان القديم وسط الجنرات الأخرى بقي عصام صاصا وحيدًا يقاوم هذه التحولات بشكل تقليدي لا يخرج في كل أغانيه عن لحن واحد، وقالب موسيقي واحد في التوزيع، بل وربما موضوعات متشابهة تدور في فلك غدر الصحاب واستعراض المفاهيم الذكورية المحببة لأبناء الطبقات الشعبية. ورغم ذلك تصدر قوائم الاستماع في أغلب المنصات حتى عام 2024، بل وخرج من عباءته إسلام كابونجا الذي سار على دربه بنفس الشكل الموسيقي.
ويبقى السؤال: هل ينتج المهرجان أصواتًا جديدة تحافظ على هويته الأصلية أم أن المشهد الموسيقى اكتفى بكلاسيكية صاصا، بينما حول المهرجان إلى مادة خام تساهم في تطوير جنرات موسيقية أخرى؟