لم يكن الراب بالنسبة إلى كحلة سوى وسيلة للتنفيس في بلد خرج من فترة حرب طويلة، لكنه سرعان ما تحوّل إلى بداية فعلية لمسيرة ستستمر لسنوات. يُعد كحلة اليوم واحدًا من أبرز الأسماء الصاعدة في مشهد الراب الليبي، وقد طوّر عبر السنوات أسلوبًا خاصًا يستند إلى تجربة محلية خالصة، متأثرًا بالمشهد في بنغازي والمحيط الذي نشأ فيه.
قبل أيام فقط سمعنا أحدث تراكاته "بلوبيري" الذي أنتجه خياط. لاحظنا قفزة على مستوى الأداء والإنتاج، فيما كان في أسلوب كتابته ينسج مفرداته من التوترات السياسية والاجتماعية في بنغازي، حيث يتقاطع الحكي الشخصي مع مشهد المدينة وواقعها. فمتى أصبح بهذا التمكن؟
إثبات الوجود يبدأ غالبًا من الفريستايل
بدأ كحلة مسيرته رسميًا عام 2016، بعد فترة من الفريستايلات التي أطلقها بشكل غير منتظم. ثم توقّف عن إصدار الأعمال لفترة، قبل أن يعود عام 2020 من خلال تعاون مع شركة "أدرينالين"، وهو التعاون الذي شكّل انطلاقة جديدة لمشروعه. في تلك المرحلة، انضم إلى مجموعة برمودا جيز إلى جانب الرابر منصور أنون، في تجربة جمعت بين الروح الجماعية والهوية المستقلة، ورسّخت حضوره كصوت صريح من بنغازي يعبّر عن جيله بلا مواربة.
ينتمي كحلة إلى جيل من الرابرز الذين تشكّل وعيهم وسط الأزمات، فانعكس ذلك بوضوح في موسيقاه. اتسم أسلوبه بالخشونة والتدفقات الحادة، والإيقاعات الثقيلة التي تميل أحيانًا إلى الدريل البريطاني، وأحيانًا إلى البوم-باب الأمريكي. لا يخفي تأثره بالمشهد المحلي في بنغازي، حيث لعبت الأسماء المحلية والتأثيرات الشعبية دورًا كبيرًا، في تشكيل لغته ونبرته ومفرداته.
رغم أن كحلة أصدر أعمالًا قبلها، شكّل تراك "كوزاكي" لحظة التحوّل الأولى في مسيرته، حين بدأ اسمه يتردّد خارج نطاق المتابعين القريبين من المشهد الليبي. جاء التراك كثيفًا من حيث الجو العام، حمل بيت داكن وإلقاء غاضب يشبه حالة الغليان الداخلي. أشار اسمه إشارة إلى شخصية قوية من عالم الأنمي، في تشبيه رمزي يعكس رغبة الفنان في المواجهة وتأكيد الذات.
الاختبار ضمن جنرات جديدة
أما تراك "6 mm" فشكّل خطوة مفصلية في مسيرة كحلة، حيث دخل من خلاله إلى منطقة صوتية جديدة، مستعينًا بجمالية الدريل التي بدأ يطوّعها بروح ليبية واضحة. من الإيقاع النابض إلى البايس الثقيل واستخدام الصمت داخل الفلو، كل هذا أعطى للتراك طابعًا مشحونًأ، ووضعه في مساحة فنية أكثر واقعية.
ناسب صوته إيقاع للدريل الذي لم يكن مجرد استلهام من الترند عالمي، فقد استخدمه كأداة للتعبير عن واقع ضاغط، حيث يتقاطع صوت الرصاص مع نبرة الغضب والتوتر. في هذا التراك، ظهرت ملامح نضوج واضحة في الأداء، من ناحية التحكم في الإلقاء، التلاعب بالإيقاع، وتكثيف الصورة اللغوية.
واصل كحلة العمل على ترسيخ هويته الفنية، لكن هذه المرة بخطوات أكثر تنوّعًا من حيث الشكل والمضمون. صدر لاحقًا في 2024 تراك "أماش" مع نورف أفريكا، قدّم جانبًا مختلفًا من شخصيته الفنية، حيث خفّف نسبيًا من كثافة الفلو لصالح نبرة أكثر روائية، وإن بقي محمّلًا بنفس التوتر الداخلي. في هذا التراك، بدا كأن كحلة يكتب من مكان أكثر تأملًا، يراقب فيه ما حوله من مسافة أقرب، لكن دون أن يفقد حدّته.
بعد سنوات من الجهد المتواصل، أصبح كحلة اليوم واحدًا من أبرز الأصوات في مشهد الراب الليبي. صوته الذي ينبع من حارات ليبيا القاسية، يحمل في طياته قصصاً عن الحرب والفقر والتحديات اليومية، ما جعل كلماته تتجاوز حدود الموسيقى، لتكون شهادة حية على واقع غير مسموع غالباً في المشهد الفني بالمنطقة. وفي ظل الدعم المتزايد وظهور أسماء جديدة، يساهم كحلة في إثراء المشهد وتثبيت مكانة الهيب هوب الليبي على الخارطة.