في وقت يترقب فيه جمهور المشهد المصري اندلاع بيف جديد يفيض عليهم بموسيقى جديدة حماسية، خاصةً بعد سلسلة المناوشات بين ويجز ومروان موسى وغيرهما من الأسماء، جاء النقاش الذي اندلع مساء الأربعاء مع المنتج الموسيقي وزة منتصر مختلفًا بطبيعته. لم يكن مرتبطًا بخلافات شخصية أو مناوشات معتادة، بل انصبّ على بنية المشهد نفسه وتكوينه الموسيقي. نقاش أعمق من العادة، أعاد فتح باب التفكير في شكل الصناعة وأدوار اللاعبين الأساسيين فيها.
من تغريدات مروان موسى إلى هجوم وزة منتصر
اجتمع وزّة منتصر وباتيستوتا في بث مباشر مع علي لوكا على تيك توك، أطلق خلاله وزة هجومًا صريحًا ضد تصريحات لـ مروان موسى. لكن الهجوم، رغم حدّته، لم يخلُ من نبرة تحمل غيرة على الجنرا، إذ جاء كرد مباشر على سلسلة تغريدات نشرها موسى، تحدث فيها عن تجربته في تطوير الإيقاعات، واستلهامه من المقسوم والأنماط الشرقية، وكيف عمل على تحويل هذه العناصر إلى جزء من مشروعه الفني.
في التغريدات تحدث موسى عن تجربته الشخصية، وهي تجربة لمسنا تطورها تدريجيًا في مشهد التراب الشعبي. لكن هذا الطرح، على ما يبدو، استُقبل من بعض الأسماء الفاعلة على أنه إقصاء أو تجاهل لمساهمات أوسع، ما فجّر النقاش إلى ما هو أبعد من مجرد اختلاف في الرؤى الفنية.
أعاد هذا النقاش إلى الطاولة جدلًا قديمًا اعتقدنا أن مشهديّ المهرجانات والهيب هوب قد تجاوزاه، وهو: من استلهم من من؟ هل التراب الشعبي هو امتداد للهيب هوب، أم أنه صوت ممتد من المهرجانات؟
هذا الجدل كان قد اشتدّ في فترة صعود التراب الشعبي منذ عام 2018، حين بدا واضحًا مدى استفادة هذا الجنرا من الأسس التي وضعها مشهد المهرجانات، سواء على مستوى الإيقاعات أو البنية اللغوية، أو حتى روح الشارع التي يتقاطعان فيها.
في هذا السياق، يمكن النظر إلى حديث وزّة منتصر بوصفه دفاعًا عن ثقافة المهرجانات، بل وربما انتصارًا لها، خاصة أنه ينتمي إليها واعتمد عليها بوضوح في تشكيل معالم خصائصه الإنتاجية.
كيف وُلد التراب الشعبي من تقاطع التجارب
كان وزة قد بدأ هذه المسيرة الإنتاجية بمهرجان "سمسون جوان" عام 2017 مع مجدي شطة وشقاوة. لكن إذا عدنا إلى سنة 2019، سنجد أن ملامح التراب الشعبي لم تكن نتاج لحظة واحدة أو اسم واحد، بل تشكّلت تدريجيًا من خلال تراكات مفصلية.
في تلك السنة، سمعنا وزّة منتصر إلى جانب سادات العالمي في "الحرب ابتدت"، تراك جمع بين نفس المهرجانات والبنية الإنتاجية للتراب. في الوقت نفسه، كان مولوتوف يؤطّر هذا الصوت الجديد في تراك "الجميزة" مع مروان بابلو، واضعًا اللبنة الأوضح لمفهوم "المقسوم المؤدلج"، إن صحّ التعبير، داخل بنية التراك الحديثة.
بعدها بأشهر قليلة، أصدر مروان موسى "البوصلة ضاعت"، التي أبرزت جانبًا آخر من هذا التحول، عبر نص تأملي وإنتاج يمزج بين القالب الغربي والمزاج المحلي. ثم جاء التحوّل الأبرز مع "دورك جاي"، التراك الذي جمع مولوتوف وويجز، وكرّس صوت التراب الشعبي على نطاق جماهيري واسع.
لكن ما سبق هذه اللحظة كان لا يقل أهمية: "خربان" سنة 2018. المهرجان الذي جمع بين ويجز وسادات العالمي، من توقيع عمرو حاحا. عمل كان بمثابة نبوءة مبكرة بما هو قادم، ومثال حي على التداخل العضوي بين مشهدي المهرجانات والهيب هوب.
ما يبيّنه هذا التتالي، هو أن ولادة التراب الشعبي لم تكن من خلال فرد، بل من خلال تراكم تجريبي ومشترك بين منتجين ورابرز من خلفيات مختلفة. وبالتالي، فإن نسب هذا الجنرا لأي طرف بمفرده يُفقده طبيعته التشاركية، ويختزل تطوّره في سردية أحادية لا تعكس واقعه.
الجدل بين المهرجانات والهيب هوب
تزامنًا مع تغريدات مروان موسى، رصدنا خروجًا لافتًا من شبرا الجنرال، أحد أبرز الأسماء التي ساهمت في تأسيس جنرا المهرجانات، حيث نشر تصريح بالاتهام، موجهًا على الأرجح إلى أحد أسماء مشهد الهيب هوب، اتّهمه فيه بسرقة خامات صوتية من عمرو حاحا.
وعند التمعّن في هذه الإشارة، يصعب تجاهل مكانة عمرو حاحا، الذي يُعدّ من أبرز المطورين في مشهد المهرجانات، وربما في "تطوير المقسوم" عمومًا، كما يُحب البعض توصيف هذا الاتجاه. فبصمته واضحة في التراكات التي صنعت تحولًا كبيرًا في الصوت المصري خلال العقد الأخير، ما يجعله اسمًا محوريًا في أي نقاش حول التأثيرات المتبادلة بين المهرجانات والهيب هوب.
من الجدير بالذكر أن استخدام مصطلح المقسوم في هذا السياق قد يميل إلى نوع من التبسيط غير الدقيق، إذ إن المقسوم، من الناحية الموسيقية، هو إيقاع شرقي محدد. أما ما يُستخدم فعليًا في إنتاج المهرجانات وبعدها التراب الشعبي، فهو أوسع نطاقًا، ويتضمن أنماطًا إيقاعية متعددة مثل البلدي والوحدة والدور الهندي وغيرها.
هذه الإيقاعات غالبًا ما تُفكّك وتُعاد معالجتها وسمبلتها بأساليب حديثة، تُنتج في النهاية ما بات يُعرف مجازًا بالإيقاعات الشرقية، والتي يُشار إليها اصطلاحًا بالمقسوم، رغم أنها تحتوي على بنى أكثر تنوعًا وتعقيدًا من هذا التوصيف الواحد.
غير أننا في النهاية، قد لا نرى هذا الجدل غير مشروع. فالنقاش حول من يؤسّس ومن يُلهم، لا ينفصل عن تمييز مستمر ضد شباب المهرجانات، بوصفها موسيقى تنبع من الأحياء الشعبية وتنتشر في التكاتك والأفراح. وفي الوقت الذي مُنح فيه مشهد الهيب هوب، أو على الأقل فئة منه، شرعية ثقافية أكبر، كما عبّر نقيب المهن الموسيقية مصطفى كامل حين قال "شباب متعلم"، يبقى مشهد المهرجانات في قلب صراع طبقي، تُقاس فيه القيمة الفنية أحيانًا على أساس اجتماعي أكثر منه موسيقي.